الجرائم الإلكترونية العالمية كلفت الاقتصاد العالمي بأكمله ما يصل إلى 6 تريليونات دولار في عام 2021، وهذه الجرائم الإلكترونية العالمية في ازدياد سنوي بنسبة 15% وقد تتضاعف النسبة في السنوات الخمس المقبلة.
ومن يعتقد أن التكنولوجيا وحدها سوف تحل تحديات الأمن السيبراني سيقع حتماً في فخ الثقة التخصصية المفرطة، ومحدودية الرؤية من منطلقات ضيقة، وذلك بما أن الأمن الوطني للدول يتكون من مجالات وأبعاد متنوعة، لها تداعيات متشابكة ذات اعتمادية متبادلة وثيقة وكذلك أطواق عديدة مرئية وغير مرئية، مما يجعلني أزعم أن الأمن السيبراني ليس مجرد مجال معني بتطبيق التقنيات والعمليات والضوابط بهدف حماية الأنظمة، وشبكات الحواسيب والبرامج والأجهزة والبيانات من التعرض للهجمات الإلكترونية، بل هو جزء لا يتجزأ من هوية الأمم وقيمها وأمنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعرفي.
وفي أزمة كورونا تبين الدور الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي في تشجيع الشعوب على رفض التطعيمات والإجراءات الوقائية، والتشكيك في نوعية معينة من الأدوات الوقائية الشخصية كالأقنعة الواقية وتزكية أخرى قد تكون ذات نوعية رديئة، بل موجه لمجتمع معين لرفع حالات الإصابة، وكانت كورونا ليست مجرد جائحة، بل حرب مكتملة الأركان، ومن تعامل معها على ذلك النحو تفوق على نفسه في مواجهة حروب الجائحات.
فجائحة كورونا كانت الانطلاقة التي دشنت عصر الأزمات المتزامنة والمتتالية لتغير العالم دون رجعة، وخاصةً فيما يتعلق بالجوانب المختلفة للمرونة التنظيمية، ومكافحة التهديدات الإلكترونية، وأهمية دمج تدابير الأمن السيبراني في ثقافة جميع المؤسسات العامة والخاصة وممارسات جميع أفراد المجتمعات، حيث كانت الهجمات التي نفذها المهاجمون عبر الإنترنت خلال أزمة كوفيد-19 هي الأعلى في تاريخ البشرية، حيث استغل المجرمون نقاط الضعف النفسية التي جعلت الناس أكثر سذاجةً من حيث القرصنة والهندسة الاجتماعية والتصيّد الاحتيالي، وتحول الأمن السيبراني إلى قضية الأمن الوطني والقومي الأهم، والتي تدفعنا بشكل أسرع وأكثر نحو مستقبل رقمي.
فالحقيقة أنه لا توجد دولة بمفردها قادرة على تأمّين أمنها السيبراني دون تأمين أمن الشبكات العالمية لخطوط الربط العابرة لمحيطات العالم، ومحطات توفير شبكة الإنترنت، وصناعة المشبّهات الإلكترونية وغيرها من مكونات جذور الأمن السيبراني، ناهيك عن تحول الجريمة المنظمة إلى جريمة منظمة ذكية قد يكون قوامها فرداً واحداً أو شبكات قيادية غير هرمية وغير منظمة، ولها قواعد ومساحات عمل عصية على الحكومات، وتتفوق الجريمة المنظمة السيبرانية فيه على القطاع العام والخاص من حيث الإمكانيات والمواهب الاستثنائية والابتكار والاختراع، كما أن لها شراكات مع بعض الحكومات.
هناك حاجة ماسة للمرونة التنظيمية في مكافحة التهديدات الإلكترونية ومفاهيم مثل مقاومة الإرهاب، وما هو المقصود بالأسلحة الفتّاكة، والتي تقود لتفوق دول صغيرة على دول كبرى في سردية حروب المستقبل والتي ظهرت ملامحها بقوة في الصراع الروسي الأوكراني، وهي مفاهيم وطرق بعيدة كل البعد عن هياكل وتجهيزات وقدرات غالبية دول العالم. والعالم العربي في ذلك السياق التنافسي غير النمطي يحتاج لإعادة النظر في رهاناته المستقبلية في ظل تكدس العقول التي ترفض التغيير، والخروج من مناطق التمكن والراحة، والاعتماد على الولاءات الشخصية والتوصيات لخلق جيل قيادي يدين بالولاء للأشخاص والدوائر التي رشحتهم، ويعتبرون نسخاً ليست بالضرورة مطورة لمن رشحهم، ويصاحب ذلك صد كل قوى رفض الاعتيادية والروتين.
التركيز على رأس المال البشري مهم، ولكن ماذا عن رأسمال العقول الاستراتيجية التي ترى ما وراء الآفاق وتصنع المستقبل بدلاً من أن تتنبأ به أو تستشرفه! إذاً العلة في جعل الحل السحري في تحويل المنظومات إلى منظمات شابة، وفي البحث عن المواهب والعقول المبتكرة فقط، ومحاصرة وتهميش خبرات لا تتلاءم في الفكر والنهج مع التوجهات الحالية أو وإحالتها إلى التقاعد، وهذا هو بيت القصيد! فالدول التي تقود العالم تقوده لأن لمفكريها واستراتيجييها الثقل الأكبر والحاسم في دوائر صنع ودعم القرار.