ينسب إلى أحد كبار الساسة الغربيين، لعله رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل، قوله إن السياسي الجيد هو ذاك الذي يملك مهارة التنبؤ بالقادم من التطورات، وفي حال لم تتحقق فإنه يملك مهارة تبرير ذلك.

ولا نعلم إذا كان تشرشل، في حال صحّة أنه القائل، ذكر ذلك من باب السخرية والتندر، أم أنه كان جاداً في وصف السياسي الحاذق الذي له من البراغماتية ما يجعله قادراً على تسويغ أفعاله، بصرف النظر إذا ما كانت إيجابية أو سلبية. والماضي والحاضر يشهدان على وجود هؤلاء الساسة، الذين يكابرون في الاعتراف بخطأ تقديراتهم، ويلقون باللائمة على سواهم أو على ظروف خارج إرادتهم.

لكن التنبؤ ليس شأناً سياسياً فحسب، ومقتصراً على الساسة وحدهم، وإنما يغطي مختلف الجوانب في الحياة، العلمية والبيئية والاجتماعية، وأذكر أيضاً أن أحد الباحثين العرب، لا يحضرني اسمه الآن، أشار مرة إلى أن الفارق بين عالم الكيمياء مثلاً وعالم الاجتماع هو أنه بوسع الأول اختبار فرضياته العلمية في المختبر، بأبحاث تطول أو تقصر، وهو أمر غير متيسّر للثاني، أي عالم الاجتماع، الذي يضع ما يضع من توقعات وتنبؤات عن مسار التحولات المجتمعية القادمة، منطلقاً مما يراه من معطيات، تاركاً للحياة أن تزكيها أو تبرهن على خطئها.

ولو أخذنا علم التاريخ مثلاً، فهل بوسعنا قياس حدث تاريخي بات ماضياً بمقدماته ونتائجه، على حدث راهن نعيشه اليوم يشبهه، فنجزم بأن النتائج التي ترتبت على الحدث التاريخي المعني ستترتب على نظيره أو شبيهه في الحاضر؟ المسألة ليست بالبساطة التي تتراءى لنا ظاهراً، فما من حدث يتكرر بحذافيره. صحيح أنه قد تكون هناك أوجه تشابه كثيرة بين حدثٍ ماضٍ وحدثٍ حاضر، ولكن هناك أوجه اختلاف بينهما، مرئية أو غير مرئية، وقد تكون أوجه الاختلاف هذه هي الحاسمة في تقرير الوجهة المقبلة للحدث الحاضر موضوع المقارنة، أكثر مما تفعل أوجه الشبه بين الحدثين.
هذا القول لا ينفي أن هناك ما يطلق عليه، عادة، «دروس التاريخ»، التي يجب الاتعاظ بها والتعلم منها، لمنع تكرار السيّئ والسلبي من الأحداث والتجارب، والاستفادة من الناجح والإيجابي فيها، وهذا لن يتم إلا عبر أفعال واعية وخطط متقنة، لا ترك الأمور تجري كيفما اتفق.