تعتبر نعرة الفوقية وأفضلية العِرْق حكراً في مجملها على الغرب وساسته، فقد اشتهرت مقولة جورج الثالث: «الخائن هو كل من لا يوافقني الرأي»، فالصواب لا يعد صواباً ما لم يتفق وتعريفهم له، واللون الأبيض ليس بأبيض ما لم يصرحوا بذلك، والقوانين والأعراف التي تنضح بها اتفاقياتهم بدءاً من اتفاقية ويستفاليا سنة 1648 ليست على إطلاقها، فما دامت في صالحهم فهي صالحة وما سوى ذلك فهي قيد المناقشة والأخذ والرد!

إن سيادة الدول حق لا معارضة له، فكل دولة لها كامل الحرية في ممارسة سلطتها المطلقة على كامل مساحتها الجغرافية وكل ما يتعلق بذلك الحيز الجغرافي دون تدخل من دولة أخرى أو محاولة فرض تأثير مخالف، ولكن يبدو أن هذا الأمر المتعارف عليه بدأ يفقد حداً ليس بالهين من إطلاقه وصلابته بعد دخول الدول الكبرى من مداخل لا يمكن رفضها لفرض الوصاية أو تشكيل ضغوطات تحت مظلات قانونية دولية مكنتهم من التسلل من النوافذ في ضوء النهار!

إن السيادة تشمل نواحي كثيرة لا يمكن فصلها عن بعضها، فالسياسة والقانون والاقتصاد والثقافة والدين، أمور تشكل خصوصية كل بلد، ولحكومته ممارسة مطلق السلطات للحفاظ على تلك الخصوصية وحماية ذلك البلد، ولكن تتكشف مع الأيام أن الغرب لا يمكن أن يدع بقية العالم ينعم بحياة مستقرة، فهو دائم التدخل تحت مظلات عدة تسوغ له فعل ذلك متى شاء، وها هو المفكر الفرنسي برتراند بادي صاحب كتاب «عالم بلا سيادة» يصرح دون مواربة أن الغرب يستخدم دون توقف ما يعرف بـ«دبلوماسية التواطؤ» وهي آلية الغفران لكل من تعرف هويته وتحترم قيمته من الكبار، وآلية العقاب والإدانة الشديدة للصغار!

لقد سوغ الغرب المتعجرف لنفسه أن يحشر أنفه في شؤون الدول الأخرى، وأن يتعدى على سيادتها بعد أن أوجد لتدخلاته مبررات تبصم عليه هيئاته الدولية التي يحركها دون مناقشة، فخرجت قوانين محاربة الإرهاب ومكافحة الجريمة المنظمة ومواجهة الجرائم المالية كغسيل الأموال وأموال المخدرات وتمويل الجماعات المتطرفة، وهي أمور وإن كان الجميع يتفق على ضرورتها وأهميتها، إلا أن اتخاذها «جسراً» للتدخل في شؤون الدول ومحاولة فرض الوصاية على حكوماتها أمر غير مقبول البتة، وبالطبع فالتدخل لا يكون إلا على «سواهم» كما قال الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت.

كما أن «عطسة» للمركزي الأمريكي في الأسابيع الفائتة من خلال رفع معدلات الفائدة، أصابت اقتصادات العالم بالزكام، وما دام مفهوم الأسواق المفتوحة قد تم إقراره منذ زمن بعيد، فإن سيادة الدول الاقتصادية عرضة للاختراق الدائم، بينما تشكل سياسة صندوق النقد الدولي للقروض واشتراطاته بالتدخل في سياسات التعليم والرعاية الصحية وخطط المحاصيل الزراعية المطلوبة تدخلاً سافراً آخر يهدف لاستلاب تلك السيادة لأعوام طويلة مقبلة.

العولمة الثقافية من جهة أخرى وصبغ الدنيا بأكملها بما يريده العم سام تحديداً، تستهدف تراث وهوية وثقافة بقية المجتمعات، وهي تدخل سافر وفج وقوي التأثير على السيادة الثقافية والأخلاقية للدول، ولن نكابر هنا فإن تسويق وتلميع النمط الأمريكي للحياة قد نجح بشكل مبهر في العديد من الدول، واستهدف بذكاء فئات «الشباب» تحديداً، والذين كانوا كرة الثلج التي تحركت بأيدي غربية خارجية، وهي تظن أنها تنشد مستقبلاً أجمل مليئاً بالحرية والفرص والمتعة، وهو الأمر الذي أسقط المعسكر الشيوعي والجمهوريات السوفييتية، وهو ما يبين بجلاء أن الداخل المستباح بمثل هذه «المظلات» القانونية الدولية عرضة للسقوط في أي لحظة إن لم يتم إيجاد مخارج قانونية في المقابل تحفظ لهذه الدول حقها في الحياة بعيداً عن الاستلاب، أو أن تكون محطة تجارب أخرى لدبلوماسية التواطؤ للكبار!

قبل أيام قلائل جرت مباراة بين منتخبنا الوطني ومنتخب الأرجنتين في عاصمتنا الحبيبة، وبعيداً عن النتيجة وحضور ميسي، إلا أن أموراً لوحظت لا بد أن لا تمر دون تفكر، فالمدرجات اكتظت بالجماهير والتي كانت غالبيتها الساحقة جماهير تشجع الخصم وترتدي قمصانه وتهتف باسمه دون توقف، والمثير أن بعض «الشباب» المرتدين للباسنا المحلي، كانوا يشيرون بأصابعهم مبتهجين بنتيجة المباراة في لقطة صادمة، ولا يهمني استهانة البعض بما جرى، فأنت لا تستطيع إيقاظ من يتظاهر بالنوم، وحيثيات المباراة تقول الكثير وتختصر الـمقلق المثير!