الفهم الخاطئ لخصائص علم النفس يعدّ واحداً من الأسباب التي تدعو إلى العودة إليها من أجل توضيحها، وتحفز على تحديد غايات هذا العلم ووسائله. فقد شهد هذا العلم، وما يزال يشهد تبايناً في وجهات نظر العاملين فيه، مثلما عانى ويعاني حتى الآن من آراء بعض المفكرين والمثقفين القاصرة حيناً، والسلبية أحياناً. وهذا ما يميز علم النفس عن العلوم الأخرى: الطبيعية منها والاجتماعية، ولو بدرجات متفاوتة.

صحيح أن التباين في الآراء الذي يصل في بعض الأحايين إلى حدّ التناقض في مضمار علم النفس كان سبباً للمواقف السلبية والقاصرة خارجه، وأن ما كان قائماً وما هو موجود الآن أو بعيداً عنها قليلاً إن هو إلا صدى ردّ فعل على ما يجري في داخله، ولكنه صحيح أيضاً أن يكون التأثير عكسياً. ذلك أن موقف الآخرين من علم النفس وخلافاتهم يؤثر على نحو ما، على ممثلي هذا العلم عبر العديد من القنوات، وفي مختلف الأطوار والمراحل التي يمرون بها قبل نشاطهم العلمي وأثناءه.

ولعل تأثير الوسط الثقافي للباحث السيكولوجي لا يقتصر على مرحلة عطائه العلمي؛ ولا ينحصر ضمن حدود معرفية معينة، وإنما يتعدى ذلك ليشمل جميع سني حياته وكافة عناصر وعيه وأشكاله. وربما وضع البعض مسألة تأثير الثقافة الاجتماعية على العالم السيكولوجي في مرحلة نضجه الذهني والفكري على هامش الصفحة ريبةً في صحتها أو في أحسن الأحوال محاولةً لإعمال الفكر فيها وتحليلها والتأكد من صدقها. وهذا ما لا نستغربه حينما نعرف أنَّ ما يمليه إجراء كهذا هو النظر إلى الموضوع المطروح بنظرة أحادية الجانب، أي من زاوية الأثر الذي يحدثه فكر العالم السيكولوجي ونظرته إلى مادة نشاطه وموضوعه في وسطه الاجتماعي، دون الاهتمام إلى الحدّ الكافي بالجانب الآخر المتمثل في دور ذلك الوسط بمختلف حلقاته ودوائره، وخاصة القريبة والضيقة منها، في هذا الفكر. فمن خلال هذا الدور تتحدد آراء الباحث وتتشكل مواقفه.

إنّ مرحلة النضج والعطاء عند الإنسان عامة والباحث خاصة، ما هي إلا نتاج التفاعل والتواصل الاجتماعيين وثمرة من ثمار التربية بأوسع معاني هذه الكلمة عبر المراحل العمرية السابقة. ومهما حاول بعض العلماء تجاهل أو تجاوز كنه هذه العلاقة واتجاهها، فإن المعاينة الدقيقة تكشف عن وجود بصمات الوعي الاجتماعي على مجمل نشاطهم كمظهر من مظاهر الوعي الإنسانيّ. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف البريطاني برترند راسل حين قال: (إن كل الحيوانات سلكت سلوكاً يتفق مع الفلسفة التي يعتنقها الشخص الملاحظ قبل أن يبدأ ملاحظاته. بل وأكثر من ذلك، فإنّ هذه الحيوانات قد أوضحت الخصائص القومية لصاحب الملاحظة. فالحيوانات التي قام الأمريكيون بإجراء الدراسات عليها تندفع في حالة من الهياج وبنشاط واستثارة واضحة غير عادية، وفي النهاية تصل إلى النتيجة المنشودة عن طريق الصدفة. أما الحيوانات التي قام الألمان بملاحظتها فتقف ساكنة وتفكّر، وفي النهاية تصل إلى الحلّ الذي يكون بعيداً عن شعورها الداخلي).

وما يهمنا من قول راسل؛ هو ضرورة العودة إلى الفلسفات التي كانت المنطلقات النظرية لعلماء النفس على اختلاف نزعاتهم، للوقوف على دورها الكبير في نشاطهم العلمي والنتائج التي توصلوا إليها. ومن غير هذا الإجراء، وما لم توضع النظرية في سياقها التاريخي - الفكري تظل في الكثير من جوانبها ومفاهيمها مجردة بصورة ما، ويتحول التأريخ لها إلى مجرد وصف أقرب للتصوير منه إلى العلم.