أن تكون لعبة كرة القدم لعبة جميلة ممتعة، ويثير أبطالها، الكبار المتميزون، الإعجاب والدهشة، فإن ذلك واقع لا شك فيه على الإطلاق. واللعبة بالفعل تستحق كل ذلك الاهتمام الذي يثار حول مواسم لعبها الإقليمية والدولية.

لكن هل تساهم بعض من ممارساتها في طرح أسئلة مقلقة محيرة بشأن تشوه تلك الصورة وتقلّبها من مشهد رياضي جميل إلى مشهد تجاري نفعي قبيح؟

وإلا فما معنى أن يستلم لاعب، حتى ولو كان بالغ القدرات، نصف مليون جنيه استرليني في الأسبوع، بينما لا يزيد دخل أكثر من مليار فرد من البشر عن دولارين في اليوم لكل منهم؟ ما معنى أن تصرف بعض نوادي كرة القدم عشرات الملايين من الدولارات لإقناع هذا اللاعب، أو ذاك، للانتقال من النادي الذي ينتمي إليه ليصبح أحد أعضائه؟ وإلى ماذا يشير قبول ملايين الشباب والشابات لهذه الظاهرة بدليل انخراطهم في كل تفاصيل تلك اللعبة، دعماً مادياً من خلال شراء التذاكر حتى ولو وصلت أسعارها إلى مستويات جنونية، وحماساً جماهيرياً يشق عنان السماء، ومماحكات لا تتوقف على شبكات التواصل الاجتماعي حول مدح هذا الاسم، أو شتم ذاك؟

لا يمكن للأجوبة عن تلك الأسئلة إلا أن تكون ثاوية في عمليات غسل الدماغ المتنامية مدفوعة الثمن التي أصبحت ظاهرة العصر بلا منازع، وثاوية في وباء التوحد النفسي الذي رسّخته فلسفة التركيز على الفرد، والتهميش لكل أنواع مؤسسات التواصل الاجتماعي البشري، وعلى رأسها العائلة والنقابة والحزب والنادي، وثاوية في تجييش كل تكتيكات وحيَل علوم النفس السلوكية والتحليلية والجماهيرية وعلم الإحصاء لزرع الغباء في العقل الإنساني، والتلاعب بالرغبات الجامحة في مخيال الشباب. وهي جميعها تكون نوعاً من «الهجوم المباشر على اللاوعي»، كما يقول الاقتصادي، جوزف شومبيتر، بشأن تأثيرات صناعة الإعلانات التجارية في الزبائن بمضاربات الأسواق وتنافس المتاجر، وتتمثل في نظام إغرائي، متخفٍ، مخادع، حيث تختلط مصالح السياسة والاقتصاد المخفية ببراءة الرياضة وأبطال الرياضة وجماهيرها العريضة.
ولذلك، فليس بمستغرب أن تتزاحم أجواء مونديال الكرة العالمية التي تقام على أرض عربية – إسلامية بخليط عجيب من التصريحات، والتلميحات، وخلط السّم بالعسل، وإقحام هذا الموضوع الجانبي المؤقت في ذلك الموضوع المركزي، من أجل خلط الأوراق لمصلحة ذلك التعصب الاستعماري، أو تلك الجرائم، أو لقلب ما هو رمزي رياضي ليصبح واقعاً سياسياً في المستقبل.

هنا يتساءل الإنسان: هل نحن أمام مونديال رياضي، أم أمام مونديال سياسي واقتصادي ؟ وهل نحن أمام جماهير تلعب بعقولهم ونفسياتهم ومشاعرهم كل قوى الاستغلال والنهم لتجعل حضور المونديال ليس أكثر من تجميع لمن يفتشون عن أي تجمع، أو مهرجان، أو تظاهرة ليهربوا، ولو مؤقتاً، من جحيم الوحدة والضياع الذي فيه يعيشون؟
نحن أمام ظاهرة عصرية كبرى خطرة: نجاح فلسفة العصر النيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة في الاستفادة من كل نشاط إنساني لمصلحة قلة من أصحاب المال والوجاهة والسلطة المتلاعبة بالعقول والمشاعر لمصلحة نهمهم وترفهم، وها إن لعبة كرة القدم الجميلة البريئة تلتحق بطابور طويل من ضحايا تلك الفلسفة.
نحن بالفعل في عالم هربت منه البراءة، ودمر الفرح الإنساني البسيط لينخره الفساد والطمع والتلاعب بكل نشاط إنساني، لمصلحة من يهيمنون عليه.