لا يخفي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عزمه على تنفيذ عملية برية في شمال سوريا، وربما لاحقاً في شمال العراق. وتعتبر الضربات الجوية التركية الواسعة النطاق في الأيام الأخيرة على مواقع لـ"حزب العمال الكردستاني" في جبال قنديل في كردستان العراق و"وحدات حماية الشعب" الكردية في سوريا، مقدمة للهجوم البري الوشيك.


والسبب المعلن للتصعيد التركي، هو الرد على تفجير اسطنبول قبل نحو أسبوعين والذي قالت أنقرة إن مقاتلي "حزب العمال الكردستاني" هم من يقفون وراءه، بحسب ما نقلت عن اعترافات امرأة سورية ألقت السلطات التركية القبض عليها ليلة التفجير.

ومعلوم أن تركيا تعتبر "وحدات حماية الشعب" الكردية في سوريا امتداداً لـ"حزب العمال الكردستاني". وتشكل "الوحدات" العمود الفقري لـ"قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) التي تعتبر الحليف المقرب من الولايات المتحدة في مواجهة تنظيم "داعش" في شمال شرقي سوريا.

وقبل أشهر من الآن، لوح أردوغان بعملية عسكرية واسعة في شمال سوريا وتحديداً توسيع المنطقة التي تسيطر عليها تركيا في شمال سوريا إلى مدينة تل رفعت في ريف حلب، وذلك بغية إعادة توطين نحو مليون لاجئ سوري تعتزم تركيا إعادتهم إلى بلادهم، في ظل الضغوط الداخلية القوية التي يواجهها أردوغان في هذا الصدد.

ولاحقاً، عزف الرئيس التركي عن تنفيذ العملية العسكرية، تحت ضغوط من واشنطن وموسكو معاً. ذلك، أن الولايات المتحدة تخشى أن يؤدي الهجوم التركي إلى إضعاف حلفائها الأكراد، وتالياً إتاحة المجال أمام تنظيم "داعش" للظهور مجدداً في المنطقة. أما موسكو التي سحبت جزءاً مهماً من قواتها من سوريا منذ بدء الحرب في أوكرانيا، فإنها تخشى أن يؤدي الهجوم إلى خلط الأوراق في الشمال السوري، بما يضعف القوات السورية النظامية، ويفسح في المجال أمام فصائل المعارضة وبينها فصائل جهادية مثل "هيئة تحرير الشام" للتوسع مجدداً.

واشنطن وموسكو اللتان تتنازعان في أوكرانيا، يهمهما الحفاظ على الوضع الراهن في شمال سوريا وعدم هز الاستقرار، ونشوء حالات تتهدد مصالحهما هناك. لكنهما تواجهان في الوقت نفسه عجزاً في ممارسة ما يكفي من الضغوط لحمل أردوغان على العدول عن قراره بعدم شن عملية برية.

الولايات المتحدة لا يمكنها المجازفة بإغضاب أردوغان في هذا التوقيت، بسبب الحاجة إلى مصادقة البرلمان التركي على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي. وأي خطأ في الحسابات الأميركية، يمكن أن يعطل هذه العملية التي تعتبرها واشنطن مكسباً جيوسياسياً عظيماً في المواجهة الأوسع مع روسيا.

وروسيا بدورها تحتاج أردوغان كي لا تنضم تركيا إلى العقوبات الغربية وكي لا تدفع مجدداً بالفصائل السورية الموالية لها كي تهاجم مواقع الجيش السوري، في وقت باتت قدرة موسكو على مساعدة دمشق محدودة جداً نظراً الى الورطة الأوكرانية.

ومما يزيد الأوضاع تعقيداً أن أردوغان هذه المرة قد لا يصغي للتحذيرات الأميركية والروسية ويمضي في العملية العسكرية، ليضرب عصفورين بحجر واحد: من جهة يوسع السيطرة التركية على حساب المقاتلين الأكراد والجيش السوري، ومن جهة ثانية يهيّئ الأرضية لإعادة توطين اللاجئين السوريين.

وهذان الهدفان يساعدان أردوغان في رفع نسبة التأييد له من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية في حزيران (يونيو) المقبل. وفي الأشهر الأخيرة، تدنت شعبية الحزب الحاكم، بسبب ارتفاع التضخم وتدهور قيمة الليرة في مقابل الدولار إلى مستويات قياسية.

وأي هجوم تركي من شأنه أن يضفي مزيداً من التعقيدات على الأزمة السورية، التي يثبت يوماً بعد يوم أنها تتحول إلى أزمة منسية وساحة لتصفية الحسابات بين الكثير من الأطراف الإقليميين والدوليين.