لأبدأ بفوز المملكة على الأرجنتين المرشح للفوز بكأس العالم، شخصيا في كل مباراة يلعبها المنتخب تكون لدي ثقة بأنه سيفوز حتى لو لم يحقق الفوز، وهذه الثقة قديمة ولا أعرف لها سببا، إلا لكوني أشعر أنه لدينا القدرة على تحقيق الكثير، وربما لم يحن الوقت لإظهار هذه القدرة، عندما سألني أحد الأصدقاء عن توقعي للنتيجة وكم سنخسر من الأرجنتين قلت له: إذا لم نفز بالمباراة سوف نتعادل، ومع ذلك ابتسم الصديق ليس سخرية بل لكوني أشعر بثقة تامة في فريقنا. يجب أن أعترف كذلك أنني توقفت عن متابعة الدوري المحلي منذ أكثر من عشرين عاما، ولا أعرف اسم لاعبي المنتخب لكني أشعر بثقة كبيرة في كل واحد منهم، ولم أتابع خلال العقدين الأخيرين إلا مباريات المنتخب، نأتي الآن إلى أسباب الفوز من وجهة نظري، فنحن نعيش عصرا مختلفا من التخطيط والبناء الجماعي، ولا بد أن يحقق هذا التخطيط المتأني مبتغاه، التنمية والتطور لا تحدث في مجال واحد فقط والشعور بالمواطنة الذي صنع الروح القتالية للاعبي فريقنا لم تكن محض صدفة، بل هي جزء من الروح السعودية الجديدة.

ذكريات كأس العالم وأجوائه الصاخبة لها ارتباط عميق بذاكرتي الشخصية، وعندما لعبنا لأول مرة في كأس العالم عام 1994م كنت أحزم حقائبي للسفر لدراسة الدكتوراة خارج المملكة وما زلت أتذكر هدف سعيد العويران في بلجيكا. وفي 1998م كنت أخرج من مكتبي في جامعة نيوكاسل لمشاهدة مباريات المملكة في المقاهي المجاورة للجامعة، ذكريات لا تنسى، ومع ذلك فإن أول بطولة لكأس العالم تابعتها كانت 1978م، وما زلت أتذكر فرحة من يكبرني بفوز تونس على المكسيك 3 / 1، فقد كان الأقارب في الرياض يأتون إلى الهفوف ليشاهدوا مباريات كأس العالم التي كانت تنقلها قنوات دول الخليج المجاورة، تظل ذكريات العالم بفرحها وخيباتها جزءا من الذاكرة التي لا تنسى، وأهم ما في تلك الذاكرة اجتماع العائلة والأصدقاء والأقارب لمشاهدة المباريات، شهر من البرنامج الحافل الممتلئ بالحماس والتوقعات يتكرر كل أربعة أعوام، لا أعلم إذا ما كانت هذه الاجتماعات قائمة حتى اليوم ولكن يجب أن أقول إنها شكلت عندي جزءا من قيم التواصل وعرفتني بكثير من أصدقاء العائلة التي ربما لم يكن لأتعرف عليهم لولا اجتماعات كأس العالم.

من المتفق عليه أن كرة القدم أحد محركات التنمية، وهذا أمر واضح في الكأس الحالية في قطر، حفل الافتتاح المتقن والملاعب التي تم تنفيذها خلال العشرة أعوام الأخيرة التي تمثل نقلة في عمارة الإستادات الرياضية، وقام بتصميمها عدد من أعظم المعماريين المعاصرين، على رأسهم المعمارية العراقية البريطاني زها حديد - رحمها الله -، ربما تكون فرصة للحديث عن العمارة وكرة القدم، فقبل عدم سنوات كنت ضمن فريق استشاري لتقييم عدد من الاستادات الرياضية كان مزمع إقامتها في المملكة، وأتذكر الحوارات والتفاصيل التي كانت تدور بين فريق التقييم، فالمسألة ليست مجرد ملعب رياضي بل بنية تحتية متكاملة تفرضها مثل هذه المشاريع العملاقة وهذا ما حدث في قطر في السنوات الأخيرة فقد كان كأس العالم سببا في الحراك العمراني والتنموي في هذه الدولة الصغيرة، العمارة لا تنشأ دون سبب، وكرة القدم والرياضة بشكل عام أحد أهم الحوافز التي دفعت بالعمارة وتقنياتها إلى التطور خصوصا النظم الإنشائية وبحور التغطيات الواسعة، كنت أفكر في وضع عنوان المقال "عمارة كأس العالم" على أن هذه المناسبة تتجاوز العمارة إلى فضاءات متعددة لا يمكن حصرها في موضوع واحد.

اللافت في مثل هذه اللقاءات هو شعار "كرة القدم تجمع العالم"، ويبدو أن ما يجمع الشعوب أكبر بكثير مما تفرقه السياسة، إنها مجال للتعارف والتثاقف، كما أشارت له الآية القرآنية التي افتتح بها كأس العالم، البشرية في وقتنا الحالي بحاجة إلى ما يجمعها ويقرب بين ثقافات شعوبها. لذلك لا يستطيع أحد أن ينكر أن قطر استطاعت أن تنقل جزءاً من الثقافة العربية والخليجية والإسلامية والقيم المرتبطة بها إلى شعوب العالم كافة، وفي مناسبة واحدة وبشكل عملي لا لبس فيه، محاولة ناجحة سيكون لها تأثير مستقبلي لا يمكن رصد حدوده.

أعود لأحداث كأس العالم، فنحن لا نزال في البداية، وأتمنى لمنتخبنا التوفيق وأن يواصل تألقه، فما يقوم به أحد أهم عوامل القوة الناعمة التي تقدم المملكة بصورة مختلفة، وهي قوة سيكون لها دور كبير في تغيير الصورة النمطية التي رسمها عنا الغرب منذ عقود بعيدة، هذه المناسبة فرصة سانحة لتقديم السعودية الجديدة والروح الجديدة التي يملكها السعوديون.