الفشل الداخلي في انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، يؤشر إلى عمق المأزق الذي يعيشه اللبنانيون، وحدّة الأزمة التي أوصلتهم إلى حافة الجوع، بفعل الانهيار المالي والاقتصادي وفي كل مؤسسات الدولة. وبينما باتت جلسات مجلس النواب اللبناني الأسبوعية تحصيل حاصل يؤكد العجز عن إنجاز الاستحقاق، تتراجع إمكانات التسوية بين الفرقاء لإنقاذ البلاد، لا بل إن القوى السياسية والطائفية تذهب إلى مزيد من الاصطفافات والتمترس في بيئاتها في انتظار كلمة سر إقليمية ودولية للسير في الانتخاب والتسوية وإن كانت على حساب اللبنانيين.


ومع مرور أربعة أسابيع على انتهاء ولاية العهد العوني، بات الوضع اللبناني يذكرنا بمرحلة التعطيل والفراغ بين 2014 و2016، حين فُرض اسم ميشال عون كمرشح وحيد للرئاسة بعد صفقات دولية تمثلت بتوقيع الاتفاق النووي 2015 ومعه تسلمت قوى الممانعة السلطة في البلد برعاية "حزب الله".

يظهر من خلال المعطيات أن التوازنات الداخلية اللبنانية غير قادرة على انتخاب رئيس، وإن كان كل طرف سياسي وطائفي يمكن أن يغير في اللعبة ويدفع الأمور في اتجاه تسوية معينة. لكن الخلافات المستحكمة والصراع القائم في غياب أكثرية وازنة في مجلس النواب، تمنع السير في عملية الانتخاب أو حتى إنجاز تسوية للملفات الخلافية. وعلى الرغم من ذلك بدأت تتضح التوجهات لدى الأطراف المقررين والممسكين بزمام الأمور بفعل ارتباطاتهم الإقليمية. فـ"حزب الله" الذي كان ارتاح لتوقيع اتفاق الترسيم مع إسرائيل بدأ يطرح مواقف علنية من الاستحقاق فرضتها تطورات المنطقة والتغيّرات التي حدثت على غير صعيد، خصوصاً في إيران مرجعيته المقررة في الشأن اللبناني. وفي غياب مبادرات خارجية باستثناء الحركة الفرنسية نحو الداخل اللبناني، يُصر "حزب الله" على إيصال رئيس من الممانعة أي "رئيس لا يطعن المقاومة"، وبات يتبنى اسم سليمان فرنجية إلى حد بعيد من دون أن يعلنه رسمياً. والسبب هو أن "التيار الوطني الحر" ورئيسه جبران باسيل لا يزالان يشكلان عقبة في وجه أي تسوية تطاول فرنجية، علماً أن باسيل نفسه يرفض أيضاً اسم قائد الجيش اللبناني جوزف عون.

المشكلة بالنسبة إلى "حزب الله" هي أنه لا يزال يريد تغطية مسيحية، تشكل خسارتها ضربة قاصمة له، ويعلم أن هناك التقاءً مسيحياً بين العونيين و"القوات اللبنانية" على رفض فرنجية ما يعني استحالة وصوله إلا في حال التسوية. لكن الحزب يستند في دعمه لفرنجية على موافقة فرنسية بدأت ادارتها تتحرك لإقناع دول إقليمية خصوصاً المملكة العربية السعودية بتسويقه للرئاسة على اعتبار أن للرجل علاقات لم تنقطع مع دول عربية وخليجية وإن كان حليفاً لنظام بشار الأسد، إنما الأمور ليست سهلة ما لم يتبن الأميركيون الإسم عبر صفقة مرتبطة بالإقليم.

ويراهن البعض على استعادة أجواء المفاوضات التي جرت قبل انتخاب ميشال عون في 2016، فـ"القوات اللبنانية" مثلاً تبنت عون لقطع الطريق على فرنجية الذي كان طرح اسمه الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، وإذا تبنت "القوات" اليوم فرنجية فتكون هي صانعة العهد الجديد مسيحياً. هذا السيناريو أمامه معوقات كبيرة في ضوء تبني "حزب الله" المباشر للاسم الممانع إنما هو غير مستحيل إذا انعقدت تسوية إقليمية وصفقة على اسم فرنجية، وإن كان من المبكر الرهان على هكذا تسوية في ظل الاصطفاف الإقليمي المتجدد والتوترات في المنطقة.

وهذا الوضع الجديد هو الذي دفع "حزب الله" إلى إعلان موقفه من الاستحقاق لتعزيز مكاسبه في الداخل اللبناني. فالمؤشرات تدل إلى توتر متصاعد في كل ملفات المنطقة تنذر في حال اشتعاله بإنهاء كل الاتفاقات السابقة بما فيها اتفاق الترسيم. ويمتد التوتر الجديد من اليمن بعد الضربة الإيرانية الأخيرة لميناء الضبة النفطي، ثم التصعيد في العمليات الفلسطينية، وقبل ذلك وصول بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل والذي يركز على منع إيران من التخصيب. كما أن الاحتجاجات الداخلية ضد النظام في إيران دفعت بـ"حزب الله" إلى تغيير استراتيجة عمله في الداخل اللبناني والتشدد في معظم الملفات خصوصاً استحقاق الرئاسة.

ثمة من يراهن في المقابل على حركة أميركية متجددة نحو المنطقة بعد الانتخابات النصفية، تنعكس أجواء إيجابية على الملفات اللبنانية. لكن هذا الرهان ليس في محله خصوصاً بعد إنجاز اتفاق الترسيم، وانشغال الولايات المتحدة بملفات أبعد، وإن كانت واشنطن تحبذ وصول قائد الجيش جوزف عون، من دون أن تبادر أو تضغط لإنجاز الانتخاب. الواضح أن الادارة الأميركية تهتم بما يحدث في إيران خصوصاً بعد تجميد المفاوضات النووية غير المباشرة، وتركز على ما بعد قمة الرئيسين جو بايدن وشي جينبينغ والعلاقات الصينية - الأميركية، إضافة إلى الحرب الروسية – الأوكرانية.

وهناك ملف مهم بالنسبة إليها يتعلق بكيفية التعامل مع المرحلة الإسرائيلية الجديدة وحكومة نتنياهو في إسرائيل ومحاولة ضبط الأمور منعاً للتصعيد مع إيران، أو حصول صدامات قد تؤدي إلى إشعال المنطقة، وذلك على الرغم من استمرار الضربات ضد الإيرانيين في سوريا. ويبقى الملف اللبناني من آخر الاهتمامات، وما يؤكد ذلك غياب المبادرات الأميركية، وهو موقف عكسته تصريحات سابقة لمساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، بقولها: "إن عدم انتخاب رئيس للجمهورية سيودي بلبنان إلى فراغ سياسي غير مسبوق، ما ينذر بانهيار الدولة مجتمعياً. هذا الأمر لا نستطيع أن نفعل به شيئاً، فهم عليهم فعل ذلك".

وفي المقابل، تعكس مواقف "حزب الله" المتجددة التوجه الإيراني العام. فأولوية النظام الإيراني إنهاء الاحتجاجات الداخلية، والعودة إلى مسار المفاوضات النووية، وأيضاً استئناف المحادثات مع السعودية خصوصاً حول اليمن ويأتي بعده لبنان الذي لا تزال إيران تعتبره ساحة نفوذ لا تقدم تنازلات فيه. وبينما أثبتت طهران للأميركيين أنها يمكن أن تسهل إنجاز اتفاقات كالترسيم، تدفع "حزب الله" إلى تصعيد موقفه ورفع شروطه في الاستحقاق الرئاسي، وهو انعكس بالتمسك بسليمان فرنجية كمرشح ممانع في مواجهة القوى الأخرى التي يعتبر أنها تطرح مرشح تحدٍ لعزله وإضعافه. ولذلك يراهن مع فرنجية على الوقت والتعطيل لحسم مواقف القوى والكتل المعارضة، وفي الوقت نفسه حدوث تطورات خارجية مواتية، إنما المهم بالنسبة إلى الحزب أن أي تسوية يجب أن تُعقد حول اسم فرنجية. هذا يعني أن الاستحقاق الرئاسي اللبناني مؤجل ومعه كل ملفات المنطقة. وإذا اشتعلت مجدداً لن يكون هناك فرصة للبنان للإنقاذ...