لم تكن الحريات الصحفية والإعلامية المتسعة نسبياً، في السنوات الأخيرة، للرئيس الأسبق «حسني مبارك» منحة من أحد، ولا هدية مجانية هبطت على صالات التحرير واستوديوهات الفضائيات.


كما لم تكن هي من أطاحت النظام، فقد انتهى بانسداد القنوات السياسية والاجتماعية، وتفشي الفساد، وزواج السلطة بالثروة، وإغلاق أبواب الأمل في أي إصلاح سياسي من داخله.


والحق في حرية الصحافة تعبير عن قدرة المجتمع، أي مجتمع، على أن ينظر في أزماته ومشاكله باستقصاء المعلومات من دون زيف، وتبادل الآراء بكل حرية. حرية الصحافة درة الحريات العامة التي تضفي على البلد، كل بلد، انتساباً إلى العصر الذي يحيا فيه.

بتعبير لافت لمراسلة صحفية إيطالية طلبت من رؤسائها إنهاء عملها في القاهرة، ونقلها إلى موقع آخر في آسيا: «لا يوجد عمل صحفي حقيقي في القاهرة الآن، لم تعد العاصمة المصرية منتجة للأخبار التي تهم العالم، والخبر الوحيد الذي ننتظره هو من يخلف مبارك». كان ذلك التعبير في توقيته ورسالته انعكاساً لما كانت عليه الأوضاع في مصر، رغم الحرية النسبية التي كانت تتمتع بها الصحف الحزبية، والخاصة، والتراكم التاريخي في الدفاع عنها.

انتقلت عدوى الحرية من صحف المعارضة إلى كتّاب الرأي في الصحف القومية، واستوديوهات التحليل السياسي في الفضائيات الخاصة واصلة إلى تلفزيون الدولة.

وفي خطوة مفاجئة صبيحة افتتاح المؤتمر العام الرابع للصحفيين، يوم الاثنين 23 فبراير/ شباط 2004 وعد مبارك بإلغاء العقوبات السالبة في قضايا النشر. كانت تلك محاولة لامتصاص الاحتقان وسط الصحفيين.

وعند إعلان الوعد الرئاسي لاح في الأفق أمل في توسيع الحريات الصحفية، غير أنه تعرض لضربات متتالية شككت في المدى الذي يمكن أن يذهب إليه في تحسين البيئة العامة المأزومة.

وبعد عام بالضبط، على الوعد الرئاسين صدرت أحكام جديدة بحبس صحفيين في قضايا نشر، كان طرفها الآخر وزير الإسكان الأسبق الدكتور «محمد إبراهيم سليمان». بدا ذلك إحراجاً بالغاً لهيبة الرئاسة، حيث تقوّض وعده واهتزت صورته.

وإثر الغضب الذي اجتاح الصحفيين اضطر الرئيس إلى التدخل لإجبار «سليمان» على التنازل عن كل القضايا التي رفعها على الصحفيين.

وفي 9 يوليو/ تموز 2006، احتجبت الصحف، الحزبية والخاصة احتجاجاً على مشروع قانون استحدث نصاً يوجب حبس الصحفي إذا طعن في الذمة المالية للموظفين العموميين، وأعضاء المجالس النيابية المنتخبة، والمكلفين بخدمة عامة. كان ذلك النص المستحدث انعكاساً لتوحش الفساد في البلد.

وجرى استخفاف مفرط في مراكز السلطة بفكرة الاحتجاب، وما قرره رؤساء تحرير الصحف الحزبية والخاصة من إجراءات.

قيل: «لن يشعر بهم أحد».. «في غيابهم راحة بال».. «إنهم يعاقبون أنفسهم».. غير أن الاحتجاب نجح بصورة فائقة هزت النظام من أعماقه.

قاطع القراء شراء أية صحيفة قومية لم تشارك في تعليمات السلطة في الاحتجاب. وعكس نجاح الاحتجاب جواً عاماً جديد يرى في الصحافة الحرة مستقبل البلد.

وجرى احتجاب ثان في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2007، على خلفية عودة الحبس في قضايا النشر نال هذه المرة من عشرة صحفيين مرة واحدة، بينهم رؤساء تحرير.

صادف ذلك الاحتجاب عكس ما جرى في المرة الأولى، مقاومة شرسة، وجرت ضغوط على بعض رؤساء التحرير، وحاول بعضهم أن يتملص من تعهداته، غير أن قوة الإرادة العامة أجبرت الأطراف جميعها على المشاركة في الاحتجاب. كان ذلك الاحتجاب رسالة جديدة بأن مصر تتغير.

ولسنوات طويلة كان النظام مستعداً لدفع فاتورة حرية الصحافة واحتمال تكاليفها، باعتقاد أنها تساعد على تحسين صورته وتخفف الضغوط الدولية عنه.

وسرى اعتقاد واسع في أوساط السلطة بأن النظام هو أكثر المستفيدين من الحريات الصحفية، بظن أنها محدودة في صحف بعينها، وأن الصحافة القومية يمكن أن تضبط الإيقاع، غير أن تلك الصورة تبددت، فالعوالم اختلفت مع ثورة المعلومات، واحتياجات المجتمع توسعت وتعقدت، ولم يعد ممكناً السيطرة عليها بالطرق القديمة.

وفي خريف 2010 تبدت نذر ومخاوف من انقضاض واسع محتمل على هامش الحريات الصحفية والإعلامية في مصر. فرغت منابر صحفية من أدوارها المعارضة بصفقات رجال أعمال، وأغلقت برامج على فضائيات.

كان ذلك تطوراً خطراً افتقد الحد الأدنى من الرشد السياسي.. فالحريات الصحفية والإعلامية ضمانة عامة تحصّن المجتمع ضد العنف والانخراط فيه، وتعطيه أملاً في التغيير السلمي الآمن.

الحوار– مهما كان صاخباً– يجري في العلن، لغته التغيير السلمي وقضيته الإصلاح السياسي والدستوري، ومادته قضايا الناس الحياتية.

وعندما تقلصت الحريات الصحفية بقبضة السلطة، غامت الرؤية في البلد، وافتقد المجتمع أي بصيص أمل، وبدأت السيناريوهات الأخرى تتفاعل في المجهول.

وفي حيرة نظام «مبارك» في الانفتاح على الحريات الصحفية داهمته العواصف في يناير/ كانون الثاني 2011.