يعيش الغرب، منذ أكثر من عقد، هاجس الحفاظ على «النقاء الثقافي والعرقي»، فبات يغض الطرف عن توجهات متطرفة، ويمعن في إقرار تشريعات تمس الحقوق الإنسانية البديهية، والحرية الشخصية بمستواها الفردي.

وهذا، بطبيعة الحال، يتعارض على نحو فادح مع كل ما اعتادت الثقافة الغربية التباهي به، ويعاكس أهم القيم التي تبرر نفسها بها.

ولسبب ما، كانت وما زالت ثقافتنا ومعتقداتنا هدفاً مفضلاً لهذه التوجهات، ويمكننا أن نتذكر، في هذا الصدد، قضايا مثل منع ارتداء الحجاب، واستهداف من يفعلن ذلك من قبل غوغاء الشارع، والمؤسسات الرسمية الأوروبية، على حد سواء، وكذلك الضجيج الذي راح يروج منذ سنوات للحديث عن مؤامرة «أسلمة» أوروبا المزعومة، إلى جانب ظاهرة رسامي الكاريكاتير الغربيين، الذين تخصصوا في تناول الرموز الدينية الإسلامية بالإساءة والتعريض.

كل هذا كان يحدث، وكان الغرب الرسمي والمدني يرفض أي احتجاج ضد ذلك، ويمتنع عن اتخاذ أية إجراءات، بذريعة أن هذه الأفعال تقع في إطار حرية التعبير، وأن الثقافة الغربية تحمي هذه «الحرية» على أرضها وضمن سيادتها.

لا نريد أن نتوقف عند ما أنتجه هذا من حالات احتقان، رفعت منسوب احتمالات المواجهة الثقافية في شوارع مدن العالم، أو التذكير بأن ذلك أوجد منابع يتغذى منها الإرهاب والإرهابيون، من الطرفين، لكننا نود أن ننوه فقط بأن هذا الوضع الشاذ نشأ في حضن الثقافة الأوروبية ومؤسساتها، لا في أي من مجتمعات العالم الأخرى، وهذا له معناه.

من المهم أن نذكر هنا أن كل هذا كان يحدث، وتتم التغطية عليه باسم حماية القيم والثقافة الغربية. وتحت هذه اليافطة نفسها، سنت فرنسا قانوناً عاماً (2004) يمنع ارتداء الحجاب في المدارس، وطبقت حكومتها ما سمته مبدأ إلزام الموظفات «تحرِّي الحياد التام». والمقصود طبعاً الحجاب على وجه التحديد، كما أيدت محكمتها العليا (2014) حكماً بفصل عاملة من وظيفتها بسبب ارتدائها الحجاب، وهذه حادثة تبعتها حوادث قضائية أوروبية كثيرة.

حسناً، يمكننا أن نقبل بكل أحكام وقرارات المحاكم الأوروبية على مختلف مستوياتها، ومثالها قرار المحكمة الأوروبية الذي ينص على «منع ارتداء أي شيء يمثّل تعبيراً عن معتقدات سياسية أو فلسفية أو دينية في أماكن العمل، قد تبرّره حاجة صاحب العمل إلى تقديم صورة محايدة للعملاء، أو الحيلولة دون أي مشاحنات اجتماعية».

وأكثر من ذلك، يمكننا أن نطالب كل من يكون على الأراضي الأوروبية أن يحترم ثقافة القارة وقيمها ومعتقدات شعوبها، والامتناع عن الطعن بها، أو الدعوة إلى ما لا يتفق معها، والتخلي عن كل ما من شأنه «الحيلولة دون أي مشاحنات اجتماعية».

ليست لدينا مشكلة، لكننا نملك كذلك الحق في حماية معتقداتنا وثقافتنا وقيمنا على أراضينا، وننتظر من كل من يزورنا أن يلتزم بعدم انتهاك قوانيننا المكتوبة والقيمية، على حد سواء.

والمبدأ هنا بسيط، ويقول إن الحقوق طريق باتجاهين. إن كنت تحرص على احترام قيمك على أرضك، فإنه يُنتظر منك بديهياً أن تحترم قيم وثقافة ومعتقدات المجتمعات الأخرى، خصوصاً على أرضها.

وفي نهاية النهايات، لا تعيش مجتمعاتنا مشكلة اسمها «مجتمع الميم»، إنها مشكلة غربية، بظاهرها وباطنها، وبحيثياتها ومكوناتها. وعلى الأقل، لا نسمع في بلادنا، بين الفينة والأخرى، عن حوادث قتل جماعي لأصحاب الهويات الجنسية المختلفة، كما يحصل في المجتمعات الغربية نفسها.

لذا، قبل أن يحاول الغرب فرض هذه المشكلة على مجتمعاتنا وأولوياتنا، عليه أن يحسمها أولاً في بلاده ومجتمعه، وحتى في ثقافته.

وفي النهاية، على الغرب أن يتخلى عن غروره؛ فهناك خارج جغرافية ثقافته، وفي بلدان متهمة ثقافتها من قِبله، يعيش ممثلو الأعراق والديانات والمعتقدات والثقافات الأخرى، بمن فيهم ممثلو ثقافته نفسها، بأمان وحرية، ودون تقييدات على حقهم في التعبير عن أنفسهم، أو إظهار انتماءاتهم الثقافية والعرقية والعقائدية.وفي النهاية، يبقى غريباً أن البحث الغربي عن «النقاء» لا يقوده إلى نفسه، بل إلى إنكار ثقافته!