في كلّ مرة تتأزّم أحوال لبنان نتيجة إلحاقه بمصالح طهران وصراعها مع خصومها الدوليين والإقليميين، لا تترك القيادة الإيرانية لبساً حول إمساكها بالمخارج من هذا التأزم.

وإذا كان خصوم «حزب الله» اللبنانيون وفي الإقليم يتهمونه بإمساك الانتخابات الرئاسية رهينة الحسابات الإيرانية، مقابل اتهامهم من جانب قيادة «الحزب» بالسعي لانتخاب رئيس «يخدم المطالب الإسرائيلية»، ردّاً على ترشيح جبهة القوى السيادية والمستقلين للنائب ميشال معوض، فإنّ القيادة الإيرانية لا تلبث أن تبرّئهم من هذه التهمة، فتنسب لنفسها دوراً متفوقاً فيه توظّفه بمواجهة خصومها، مثلما فعل مرشد الثورة السيد علي خامنئي بقوله إنّ لبنان، مثل العراق وسوريا واليمن، هي دول تشكل العمق الاستراتيجي لطهران في صراعها مع دول الغرب. تماماً كما فعل مسؤولون إيرانيون في السنوات السابقة بإعلانهم جهاراً نهاراً أنّ إيران تسيطر على أربع عواصم في المنطقة بحكم نفوذ حلفائها فيها...

يربك السلوك الإيراني حتى الساعين إلى التوافق مع «حزب الله» على رئيس جديد للجمهورية، بحجة أنّه من غير الممكن إنهاء الفراغ الرئاسي في حال تمّ تجاهل وزن وقوة الحزب في المعادلة التي تأتي بالرئيس. فسلوك هذه القيادة يضيّق هامش التعاطي مع «حزب الله» انطلاقاً من موقعه اللبناني كممثل لشريحة من اللبنانيين إن على الصعيد الشيعي أو على الصعيد السياسي والوطني. وإذا كان لبنان يشكّل عمقاً استراتيجياً لطهران، فكيف يمكن تحديد الخيط الفاصل بين الوظيفة الإيرانية لتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية وبين الأغراض اللبنانية للفراغ الرئاسي، حتى يتمكن الفرقاء اللبنانيون المعارضون لسياسته من صوغ تسوية على الرئاسة اللبنانية معه؟ وهل يمكن التمييز بين المطالبة برئيس يحمي ظهر «المقاومة» ولا يطعنها في الظهر أو يتآمر عليها، وبين حماية ظهر النظام الإيراني من «الطعنات» التي يتلقاها تارة من الحراك الشعبي الاحتجاجي في الداخل وأخرى من الضغوط الأميركية والغربية عموماً، ومن تبعات الموقف العربي ولا سيما الخليجي، الذي يقاوم تدخلات حكام طهران في الدول العربية؟ وما علاقة فرقاء الداخل في لبنان برفع سياسة تصعيد الخطوات والعقوبات الغربية على حرس الثورة في إيران، لأسباب تتعلق ببرنامجها النووي وبتدخلاتها الإقليمية وبقمعها انتفاضة الداخل؟

يكشف الخطاب التخويني الذي يعتمده «الحزب» في مواجهة القوى التي ترشّح للرئاسة من يناهض استتباعها البلد لمقتضيات المواجهة الإيرانية لكلّ تلك الضغوط الدولية والإقليمية والداخلية، القدر العالي من الادعاءات بأنّ ما يريده هو الضمانات بعدم طعن المقاومة في الظهر. والحديث عن «التوافق» على الرئيس المقبل ينقض كلّ هذا الخطاب. فكيف يمكن «للحزب» أن يقبل بالحوار كما يقول قادته، ثم بالتوافق، مع من يتّهمهم بالسعي لرئيس ينفذ المطالب الإسرائيلية، إلا إذا كان المقصود بـ»التوافق» والحوار التسليم بمن يقبل به «الحزب» رئيساً ليتناغم مع متطلبات المواجهة بين طهران وبين دول الغرب، ويقبل بإبقاء لبنان ساحة تستخدمها القيادة الإيرانية لتبادل الضغوط مع خصومها؟ والحال أنّ لبنان سقط في الحفرة التي هو فيها نتيجة الإمعان في تحويله ساحة لتبادل الضغوط مع خصوم طهران، فتعرّض للعقوبات أسوة بما تتعرض له إيران وأذرعها و»الحزب» أبرزها، وخضع للعزلة التي تتوخى تطويق السياسة الإيرانية واحتواءها...

لا تفسير لذلك الخطاب إلا أنّ المطلوب هو عكس «التوافق»، ما يثبِّت الاعتقاد بأن «الحزب» لا يريد تسوية، فيخيّب بذلك حتى تطلعات بعض القوى الساعية إليها معه، بعدما استمرأ التحكّم بالرئاسة الأولى لست سنوات يصعب عليه بعد انتهائها تقديم أيّ تنازل يتيح إنقاذ البلد مما أوقعه فيه تحكّمه عبر الموقع المسيحي الأول بقرارات السلطة السياسية وتوجهاتها الخارجية.

ما يستمر «الحزب» في تجاهله هو الخلل الذي أحدثته موجبات إلحاقه البلد بمقتضيات المواجهة التي تخوضها إيران دولياً وإقليمياً في نسيجه السياسي والطائفي الحساس، ما دفع البطريرك الكاردينال بشارة الراعي إلى التساؤل أمس عما إذا كان المقصود من تعطيل انتخاب الرئيس الذي يتباهى به قادة الحزب، «محو الدور الفاعل المسيحي عامة والماروني خاصة». بموازاة دعوة «الحزب» خصومه إلى مراجعة مواقفهم، هل يأخذ هو بالنصيحة التي يسديها للغير لاستدراك تراكم المواقف لا سيما المسيحية إزاء مفاعيل تعطيل الرئاسة، وأبرزها سؤال الراعي: «لماذا رئيس مجلس النواب ينتخب بجلسة واحدة وحال موعدها؟ ولماذا يتم تكليف رئيس الحكومة فور نهاية الاستشارات الملزمة؟ أهما أهم من رئيس الدولة؟».