الأستاذ الفلسطيني الأميركي اللامع والثاقب البصيرة، الدكتور إبراهيم أبو لغد، كان مرشداً علمني بعض الدروس القيمة حول السياسة والتاريخ. فعلى الرغم من أنه كان كائناً سياسياً بعمق، كان مؤرخاً في جوهره.

ولذا حذرني من عدم التأثر بشكل مفرط بالعناوين الصحفية اليومية أو بردود فعل المعلقين على الأحداث اليومية. وكان يقول إن التاريخ مثل المحيط. والأحداث اليومية مثل الأمواج أو المد والجزر التي تتواتر بلا توقف. وعند الحكم على أهمية الأحداث، يجب على المرء ألا يتأثر بالمد والجزر.

والأهم من ذلك هو إمعان النظر في ما تحت السطح نحو التيارات العميقة التي تشكل الأحداث وتلعب دوراً في تحديد معناها. وأفكر غالباً في هذا الدرس حين أقرأ مقالات الرأي في الصحف اليومية أو أستمع إلى معلقين في التلفزيون وهم يدلون بآرائهم حول أمور تمتد من السياسة الداخلية إلى الحرب والسلام في مناطق مختلفة من العالم. إنهم مثل القصب الذي يصفر في الريح، فإنهم يصدرون أحكاماً سريعة، وغالباً ما تكون غير مدروسة، بناء على ما حدث للتو في يوم ما. ولأنهم يستندون إلى سلطة، يصدقهم الناس ويردد الآخرون أفكارهم.

وهذا يساعد على خلق «حكمة مقبولة» عن معنى الأحداث مما يشكل الفهم العام وحتى السياسة، على الرغم من خطأ هذه الحكمة. والاستخفاف والنبذ هو مصير من لا يتفق مع هذه «الحكمة». وحاولت تجنب السير على نهج أمثال هؤلاء المعلقين، آخذاً درس الدكتور إبراهيم في الاعتبار، ونتيجة لذلك وجدت نفسي في أغلب الأحوال خارج هذه «الحكمة المقبولة».

فعلى سبيل المثال، كنت في برنامج لشبكة تلفزيونية أثناء احتجاجات (الثامن من آذار) الحاشدة في لبنان التي طالبت بإخراج القوات السورية من البلاد. وفي البرنامج، أشار صحفي محترم إلى أن حجم الاحتجاجات في لبنان تملي عليه أن يقول: إن«جميع شرائح المجتمع اللبناني متحدة في هذا الهدف». وأجبت بأنه على الرغم من رغبتي في خروج سوريا، لكننا انتهينا للتو من استطلاع رأي في لبنان كشف أن البلد منقسم نصفين حول قبول بقاء السوريين أو مغادرتهم البلاد.

وحدث الشيء نفسه حين كانت إدارة أوباما تستعد لقصف ليبيا. وسألني مقدم البرنامج الذي كنت ضيفاً عليه إذا كنت أوافق على أن التخلص من القذافي أمر جيد. وأجبت بأنه قد يكون الأمر كذلك، لكن يجب مراعاة مخاطر انهيار البلاد ودخولها فترة من الصراع الطويل قبل اتخاذ أي إجراء متهور. ورد المضيف بالقول «لم تكن هذه هي الإجابة التي كنت أبحث عنها». ثم تحول إلى الضيف التالي الذي أعطاه الموافقة التي كان يبحث عنها.

وإذا كان هناك أي ثوابت في التحليلات والتعليق على الأحداث، فهي أن الدروس لا يتم تعلمها أبداً، وهذا يترسخ بقدر ما في صوت المتحدث من سلطة بما يكفي لنقل الحكمة. ولعلكم تذكرون النشوة التي استقبل بها المعلقون في التلفزيون خطاب جورج بوش الابن السابق لأوانه عن «إنجاز المهمة» في حرب العراق. أو تذكرون القبول دون تحفظات الذي صاحب قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. أو، في وقت أحدث، حين عبر البعض عن يقينهم بأن أوكرانيا قد تخطت المرحلة الحرجة وأن النظام الروسي في مأزق.

أو لعلكم تذكرون التنبؤات بأن هناك بالتأكيد «موجة حمراء» من «الجمهوريين» الأميركيين ستسيطر بشكل حاسم على مجلسي النواب والشيوخ. وتخيل لو أننا سجلنا نقاط للمعلقيين السياسيين بنفس الطريقة التي نسجل بها نقاط أداء الرياضيين المحترفين.

إذا حدث هذا، ستصبح نقاطهم سيئة للغاية، وسيجري سحبهم من الحلبة ولن نسمع عنهم مرة أخرى. والأمر لا يقتصر على أن المعلقين مخطئون فحسب، بل هم مخطئون في يقينهم وفي تصديق الجمهور وصناع السياسات على حد سواء. والسبب في ارتكابهم للأخطاء هو بالتحديد لأنهم لم ينصتوا لمعلم مثل إبراهيم أبو لغد. ونظراً لافتقارهم إلى فهم التاريخ أو قبولهم للبيانات الملموسة، فهم يتركون أنفسهم للوقوع في أسر مزيج من الحكمة التقليدية ومد وجذر الأحداث. وهذه وصفة للخطأ والكارثة.