صحيح أن الإمبراطوريات التي سادت عبر التاريخ تراجعت ولم يعد لها وجود بالمعنى التقليدي للكلمة، أي تراجع الفعل الاستعماري المباشر لصالح أشكال أخرى من هيمنة القوى الكبرى، التي لو دققنا النظر سنجدها اجتمعت في مجلس الأمن كأعضاء دائمين، يقررون مصير العالم عبر تدخلات مباشرة، عبر المنظومة العالمية، وتدخلات غير مباشرة عبر التصرفات الفردية كدول، مع أنه من المفترض على الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وهي المسؤولة عن حفظ الأمن في العالم، ألا تقوم بأعمال عدائية ضد أحد، إذ لا يجوز أن تلعب دور القاضي والجلاد في الوقت ذاته، وهذا ما اتُفق على تسميته في مرحلة من المراحل خلال القرن العشرين، بازدواجية المعايير.


والغريب أنها تعلن عنها مباشرة، تعلن عن انحيازها لدولة أو أخرى مباشرة، وهذا ما جعل بعض المفكرين السياسيين الاستراتيجيين، وعدداً من قادة الدول في العالم الثالث، يطالبون بإعادة النظر في النظام الداخلي لمجلس الأمن وبالتالي منظمة الأمم المتحدة، وذلك كي تكون أكثر عدلاً وأكثر حيادية.


نقول إن الحروب الاستعمارية انتهت في ظاهرها، وتوقفت الهجمات المباشرة على الشعوب لاستعبادها ونهب خيراتها واحتلالها، إلا أن العالم لم يتخلص من خوفه وتوتره، والدول الصغيرة لا تشعر بالأمان، ولهذا لجأت إلى تسليح نفسها للدفاع عن ذاتها، أو تحقيق الردع مع العدو، وهي تعلم أنه في حال نشوب حرب مباشرة مفتوحة، فإنها لن تتمكن من الصمود طويلاً. لهذا فإن العالم لم يتوقف في يوم ما عن الشعور بالتهديد الخارجي، والشعور بالخوف يتعاظم نظراً لوجود أسلحة هجومية فتاكة، منها نووية وأخرى جرثومية ونيتروجينية وغيرها، تستطيع أن تدمّر الكرة الأرضية ست مرات. وعلى الرغم من مئات ملايين القتلى والجرحى الذين خلفتهم الحروب على مر التاريخ، فإن الإنسان لم يتعظ، والقادة لم يتفكّروا، بل يواصلون شحن شرايين الكرة الأرضية بالأفكار التدميرية.

خلال الشهر الماضي صدرت تصريحات وأخبار وتسريبات وتهديدات جعلت المراقب يظن أن الحرب النووية على الأبواب، من بينها تصريح لقائد الأسطول الأمريكي في المحيط الهادي، الأدميرال سام بابارو يقول فيه إن الصين نشرت صواريخ بالستية جديدة على ست غواصات تعمل بالطاقة النووية، ويمكن أن يصل مداها إلى البر الأمريكي. وفي الإطار ذاته، تتهم الولايات المتحدة روسيا والصين بعرقلة رد مجلس الأمن الدولي على تجارب إطلاق الصواريخ التي أجرتها كوريا الشمالية. ورئيس صربيا يقول بأن الوضع في كوسوفو معقد وعلى أعتاب الاشتباكات بعد فشل المفاوضات بين البلدين.

وفي سياق آخر لم تتوقف الاتهامات بين الولايات المتحدة وإيران بشأن الاتفاق النووي، إضافة إلى التوتر على الحدود التركية السورية والتركية العراقية، وكذلك تحذير وزير الخارجية الأمريكي من انهيار لبنان في غياب انتخاب رئيس خلال الفترة القادمة. وتدخل الشركات التكنولوجية العملاقة مثل تويتر لتزيد التوتر عن طريق تسريح آلاف العاملين في مكاتبها. يضاف إلى ذلك الرؤية التشاؤمية لعدد من المحللين الاقتصاديين والتنبؤ بكساد عالمي جديد يشبه ما حصل في العام 2008 أو يزيد.

هذه الأخبار وغيرها، بصحيحها وكاذبها، تزيد من حجم الخوف والقلق والذعر، بحيث ينعكس كل ذلك على وتيرة التنمية في أكثر من مكان في العالم، ولو استمرت بالوتيرة ذاتها التي شهدها شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، فإن قادة العالم يدفعون باتجاه أزمات اقتصادية عميقة، سيّما وهم يغذون الحرب الروسية الأوكرانية، التي انعكست بالفعل على حركة الاقتصاد والأسعار في العالم.

نحن نشهد تصريحات ساخنة في مناطق متعددة من العالم منذ أكثر من عقدين من الزمان، تزيد سخونة وبرودة، من دون أن تؤدي إلى حروب حقيقية، ويحق لنا أن نسأل: هل هناك قصدية معينة للإبقاء على العالم في هلع دائم؟