لست معتادًا على نشر رسائل القراء، اللهم إلا فيما ندر عندما يكون فيها ما يفيد القضايا التى أتناولها فى العادة، فالمقال هو مساحة من الفكر والاجتهاد، التى ائتُمن عليها الكاتب لكى يضع فيها ما يسهم فى تطوير وتقدم الشأن العام فى مصر. وليس سرًّا على أحد أنه منذ بدأت فى الكتابة المنتظمة فى الثمانينيات من القرن الماضى وأنا أعطى الكثير من الاهتمام والتركيز للقطاع الخاص لكى يقوم بدوره فى التنمية المصرية مقدمًا لها المبادرة والطاقة. وكان الشائع دائمًا أن يكون سعى الكاتب هو رفع العقبات والقوانين المعوقة لانطلاقة هذا القطاع المهم؛ ولكن مجهودًا أقل كان مبذولًا فيما هو واجب على القطاع الخاص أن يقوم به لكى يكون قاطرة المقدمة فى التنمية المصرية الشاملة. مذكرات د. رؤوف غبور- رحمه الله- لفتت نظرنا إلى أهمية تطوير شركات هذا القطاع، بحيث تكون قائمة على أسس مؤسَّسية تكفل لها الاستدامة والنمو، وبالاختصار الخدمة العامة، حتى فى غير وجود مؤسِّسيها والقائمين عليها.

فى الأول من نوفمبر الجارى، وردت إلىَّ رسالة من د. م. إيهاب سمير- دكتوراه فى هندسة التشييد- ركزت على دور التكنولوجيا والابتكار فى تحقيق نقلة نوعية فيما تقوم به الرأسمالية المصرية. ونظرًا لطول الخطاب وتكامل نقاطه، فسوف أتنازل له عن الجزء الأكبر من هذه المساحة، مع بعض التعديلات التحريرية، والاختصار الضرورى للمساحة لعلها تفيد وتنفع ليس فقط القطاع الخاص، وإنما معه الاقتصاد الوطنى كله.

فى إحدى مقالات الدكتور یوسف إدریس، تحدث فى بدء مقالاته عن كوریا (الجنوبية) وكیف أنها تصدر لعب الأطفال سنویًّا بحوالى ملیار (دولار)، وكان ذلك فى الوقت الذى كانت فيه الدولة الكورية حطامًا بعد انتهاء الحرب الكورية عام ١٩٥٣.

.. المؤكد أنه لا أحد فى ذلك الوقت اهتم بالرد على السؤال الذى طُرح: لماذا لا نفعل نفس الشىء؟. نفس هذا السؤال یُطرح الیوم عن أسباب عدم وجود قاعدة صناعیة قویة فى مصر يمكنها التنافس بشكل عالمى، وبالتالى إدخال مصر فى مرحلة من مراحل النمو السلیم المبنى على أسس علمیة. الإجابة عن هذا السؤال تتطلب مراجعة بعض الأرقام الدولیة الخاصة بالملكیة الفكریة الساریة فى الدول الصناعیة وبعض دول الإقلیم ومقارنة الرقم المصرى بها. هنا فإن الدولة الرائدة فى الابتكارات المسجلة فى العالم هى الولايات المتحدة، تليها الصين، وكلتاهما يزيد عدد براءات الاختراع فيها على ثلاثة ملايين براءة، وبعد ذلك تتوالى الدول: اليابان وكوريا الجنوبية (أكثر من مليون)، ثم ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وكندا وتركيا (أكثر من ٨٨ ألفًا)، وجنوب إفريقيا أكثر من ٧٨ ألفًا، وماليزيا ٣٢ ألفًا، وفيتنام أكثر من ١٢ ألفًا. مصر لديها ٥٦٥٥ براءة، وتسبقها المغرب بأكثر من عشرة آلاف، وتليها السعودية بأكثر من أربعة آلاف، ثم الإمارات ٢٤١٦ براءة.

یقوم الإنتاج الصناعى فى العالم على الابتكار، وتلعب براءات الاختراع الصناعیة دورًا أساسیًّا فى زیادة القدرة على التنافس أو حتى الخروج تمامًا من السباق. وربما تكون قدرة الألمان على إعادة بناء ألمانيا بعد الحرب تعود إلى احتفاظهم بالرسومات الأصلية لكل منتجاتهم وماكيناتهم، مما أتاح لهم إعادة بناء كل ما دمرته الحرب فى زمن قیاسى. مشكلة القطاع الخاص المصرى أنه جاء من خلفية تجارية لا تؤمن بالبحث العلمى أو التطوير المحلى للصناعة إلا فى حالات استثنائية. الصناعة بالنسبة للكثيرين تعتمد على استيراد الخطوط والماكينات من الخارج، وشراء الخامات من الداخل أو الخارج، وتشغيل المصنع والصيانة. لكن ماذا عن الإحلال والتطوير؟. مرة أخرى، لابد من الاعتماد على الخارج، وبالتالى انتهى الأمر بأن جميع المُعَدات وخطوط الإنتاج فى كافة المصانع المصرية هى تصميم وتصنيع مستورد، والإحلال والصيانة سيتمان باستيراد المكونات. إذًا، فنحن أمام هامش ربح صغير جدًّا، بالإضافة إلى العبء على الدولة لتوفير العملة الصعبة لهذه الدورة الصناعیة الضعيفة. هل يمكن للقطاع الخاص أن یعمل بدون ابتكار محلى؟، أظن أنه صعب جدًّا.

ولكن أین الابتكار المحلى؟، هنا لا مفر من مراجعة كتاب صادر عن البنك الدولى، تحت عنوان «اتجاهات فى التنمیة.. دور الجامعات فى التنمیة الاقتصادیة». وتوضح فصول الكتاب الدور الذى لعبته ومازالت المؤسسات الأكاديمية العلمية والتطبيقية بالمشاركة مع الشركات الصناعیة الخاصة فى الابتكار وتسجيل البراءات لتحقيق منافسة عالمية. یتعرض الكتاب لتجارب دول آسیا وأوروبا وأمریكا. اعتقادى أن أغلب المهتمين بالشأن الاقتصادى فى مصر لم یُتَح لهم الاطلاع على إذا الكتاب. الواقع المصرى فى اعتقادى ناتج عن انفصال كامل بین قطاعات مؤثرة فى العملیة الصناعیة، وعدم حدوث أى تشارك مؤثر یؤدى إلى قیام صناعة منافسة عالمیة. لسنوات طويلة، تم إهمال شدید لتصنیع خطوط الإنتاج المصریة فى العدید من المجالات، وحتى الیوم لا توجد صناعة للأجزاء المتحركة فى المُعَدات، مثل المحركات والتوربینات.

والحقيقة أنه لا یمكن أن تقوم بیئة صناعیة مبتكرة بدون اقتناع أصحاب الشأن الأساسیین، وهم فى هذه الحالة القطاع الخاص، الذى لا یؤمن حتى اللحظة بأهمية الابتكار الوطنى فى الصناعة، وضرورة بناء قواعد تطویر قویة داخل المصانع. دور الدولة أنها لابد أن تُعد البیئة الحاضنة، بدعم غیر مسبوق، لتفادى مخاطر الابتكار ودعم البحث العلمى فى المراكز البحثیة لصالح الصناعة، والاعتقاد هنا أنه ضعیف للغایة. الجهات العلمیة تحتاج تغییرًا جذريًّا فى استراتیجیة التعلیم الهندسى لدفع الابتكار إلى الصدارة. لابد أن نسأل عن دور أقسام التصمیم المیكانیكى وهندسة الإنتاج فى كلیات الهندسة ، هل دورها تخریج مصممین لخطوط الإنتاج أم مهندسى تشغیل وصیانة للخطوط القائمة؟. هل دور خریج قسم الهندسة الطبیة صیانة الأجهزة فقط أم المشاركة فى ابتكار أجهزة طبیة مصریة؟. ماذا عن التطور فى علوم المواد واستخداماتها التى يشهدها العالم الیوم، هل لمصر نصیب فى ذلك؟. الابتكار عمل مؤسَّسى یشارك فیه العدید من الجهات من أجل تحقیق نجاح ولیس عمل أفراد بدون موارد تُذكر. لابد من التسلیم بأن الدولة تحتاج لاستحداث أفكار وسياسات تزيل العوائق القائمة أمام القطاع الصناعى. لابد من حوافز للشركات المبتكرة تفوق بكثير الشركات التقليدية. القطاع الخاص يحتاج للدخول فى قطاعات جديدة بمساندة الدولة والأكاديميات الوطنية.

لتوضيح قوة القطاع الصناعى الخاص فى العالم، مثلًا شركة «سيمنس» الألمانية، التى تقوم بشراكة مع مصر بإنشاء القطار السريع، تمتلك حوالى ٦٥ ألف براءة اختراع. وشركة «كالتبلر»، المُصنِّع الأول لمُعَدات التشييد فى العالم، تمتلك ما يزيد على ١٤ ألف براءة اختراع. شركة آى بى إم الأمريكية العملاقة تمتلك ما یزید على ٧٢ ألف براءة اختراع. لابد من الحدیث عن بناء خریطة مصریة للابتكار یعمل الجمیع من خلالها توضح المجالات التى ستعمل فيها مصر فى السنوات القادمة من أجل توجیه الموارد بشكل فعال ومثمر. «أتمنى عدم إضاعة المزید من الوقت والفرص». انتهى الخطاب.