تظهر الوثائق التي أزيح عنها الستار، وجود طرف ثالث أو لاعب خفي في المواجهة العسكرية بين روسيا والغرب في أوكرانيا، ما دفع إلى طرح سؤال تحذيري من جانب خبراء مهتمين بتلك الحرب والقائل: هل أفرزت طرق التعامل مع تلك الأزمة نوعاً من السياسات التي تدخل العالم إلى عصر جديد تُمارَس فيه الدبلوماسية المخابراتية – أو التجسسية؟


الوثائق التي لفتت أنظار الذين طرحوا هذا السؤال، تناولت تقريراً عنوانه «المخابرات السرية والدبلوماسية العامة في حرب أوكرانيا»، والمكون من ثلاثين صفحة. وقام بكتابته كل من البروفيسور توماس ماغواير أستاذ دراسات المخابرات والأمن بجامعة كينغز كوليدج في لندن، والبروفيسور هيود ايلان أستاذ دراسات الأمن الدولي بإدارة دراسات الحرب التابعة للجامعة البريطانية نفسها.


والاثنان يتساءلان: هل نحن ندخل الآن عصراً جديداً من الدبلوماسية المخابراتية، الذي يتزايد فيه نفوذ أجهزة المخابرات في صناعة السياسة الخارجية؟ واستشهد الاثنان بما أعلنه كثيرون من مسؤولي الأمن السابقين بالولايات المتحدة، عن تأييدهم لاستخدام أجهزة المخابرات في عمليات خارجية. ومن بينهم رولف لارسن، نائب المدير السابق لموقع مخابرات أمريكا في موسكو. وكذلك عدد من المديرين السابقين لوكالة المخابرات المركزية، مثل ليون بانيتا، ومايكل هايدن، وجون برينان. وأيضاً مايكل موريل، نائب مدير وكالة المخابرات الوطنية الأمريكية.

كما أن برايان ميرفي، الوكيل السابق لمكتب المخابرات والتحليل بوزارة الأمن الداخلي، قال إن استخدام المخابرات نفوذها خلال أزمة حرب أوكرانيا أظهر أن دوافع عدة كانت وراء استخدامها، من بينها دفع روسيا نحو التورط في أعمال تكبّدها خسائر، إضافة إلى الكشف عن المنطقة الرمادية Gray Zone التي يدير فيها بوتين نشاطاته العسكرية بعيداً عن الأعين، وبذلك يمكن ردع إجراءاته الهادفة إلى إضعاف حكومة زيلينسكي في كييف.

وجرى الدفع نحو بوتين برسائل مخابراتية الطابع لتحذيره من أن العالم الخارجي يعلم بما يفعله. وقد بدأ استخدام هذه الرسائل منذ زيارة ويليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية، لموسكو في فبراير/ شباط 2021، قبل غزو أوكرانيا، ثم فيما بعدها.

وتضمنت الرسائل تنبيه بوتين بأن قادة حلف «الناتو» يتابعونه ويحللون تصرفاته وسياساته وخططه، وحتى يمكن بذلك خلق شعور لديه بأن أفعاله مكشوفة، حتى ولو ظن أنه لا يزال داخل المنطقة الرمادية.

يتصل بذلك ما أعلنته إيميلي هورن، المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي، بقولها: «نحن تعلمنا الكثير عن كيفية منع روسيا من التمتع بنفوذ في الخفاء، اعتماداً عن أدوار أجهزة المخابرات حتى من قبل غزوها لأوكرانيا».

وحسب التقرير المنشور في المطبوعة البريطانية «سيرفايفل»، فإن جهوداً بذلت من حلف «الناتو»، ومن حكومة أوكرانيا، لنشر معلومات مخابراتية زائفة، هدفها إثارة الارتباك والتشكيك في روسيا، في نظر العالم. وإن واشنطن ولندن استخدمتا المخابرات السرية بنشر معلومات تبدو في ظاهرها صحيحة، لتبرير موقفهما من حرب أوكرانيا، وبتنسيق محكم بينهما لمواجهة أي تطورات متوقعة.

وفي الوقت نفسه، تولى كل من ويليام بيرنز، وجيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، تنفيذ مبادرة لاستخدام المخابرات في خريف 2021، هدفها الحد من نفوذ روسيا خاصة في المجال الدولي الخارجي، بالتنسيق مع مجلس الأمن القومي.

ويقول الخبراء البريطانيون إن صناع القرار السياسي، ورجال المخابرات في كل من واشنطن ولندن، لا يزالون يتذكرون الورطة التي وقعوا فيها في عام 2003، بعد استخدام تقارير مخابراتية زائفة لتبرير الحرب على العراق.

ولهذا السبب فإنهم كانوا حذرين أثناء أزمة أوكرانيا من التورط بالمغالاة في إعلان مبررات دورهم المساند لأوكرانيا، خشية ردود فعل ممن يعارضون هذه السياسات.

وهذا هو ما دفع كثيرين من رجال المخابرات البريطانية والأميركية السابقين إلى تحذير حكومتيهما من التدخل قبل، وأثناء حرب أوكرانيا.

وعلى مستوى الحكومات، فإن فترة التقييم المخابراتي للأحداث القادمة بين روسيا وأوكرانيا منذ عام 2021، قد شهدت ضغوطاً على الحلفاء الذين لوحظ ترددهم أمام اتخاذ إجراءات صارمة وقوية ضد روسيا، مثل فرنسا وألمانيا، خاصة بعد أن أظهر المستشار الألماني أولاف شولتس، نيته للتحرك نحو بداية جديدة مع موسكو.

المعترضون على هذا التوجه، المخابراتي السياسي، يحذّرون من أن ذلك التوجه معبأ بالمخاطر، خاصة مع الوضع في الحسبان أنه يتخذ من دول ديمقراطية، وفي مجتمعات يفترض أنها تتعامل مع الآخرين بناء على حقائق راسخة ومؤكدة، وليس فبركة الحقائق والمعلومات.