لم يكن الانطباع العام حول منطقة الخليج في العالَم إيجابياً كما هو اليوم، فبالأمس كان العالَمُ ينظر إلينا في الخليج كشعوب تجاوزتها الحضارة وكدول ريعية بلا موارد ولا إنجازات حضارية أو علمية سوى موارد الطاقة والنفط المتدفقة تحت رمالها.. شعوب تقطن صحارٍ شاسعة تحت شمس ملتهبة! وكانت هذه صورة نمطية لا تكاد تتغير عند ذكر أي بلد من بلدان منطقة الخليج!
لكن شاءت الأقدارُ أن يتغير كل ذلك ليصبح الخليج قِبلةَ السائحين وملتقى الحضارات ومنارةَ التقدم وأكثر مناطق العالَم تداولاً لمنتجات التقنية ومستجداتها، حتى وصلنا إلى ريادة القمر، واستضفنا «إكسبو 2020 دبي»، وتدفقت أفواج السياح في بقاع منطقتنا، واستقبلنا أكبرَ حدث عالمي كروي في محفل عملاق امتزجت فيه ثقافات المنطقة وتراثها بحضارتها ومنجزاتها ونهضتها وشغفها الرياضي المبهر.

انطلقت على أرض قطر منافسات النسخة الـ 22 من بطولة كأس العالم لكرة القدم بمشاركة 32 منتخباً، وتستمر حتى 18 ديسمبر الجاري، في افتتاحية متميزة أقيمت على استاد البيت المستوحى تصميمه من بيوت الشعر التي كانت ملاذاً لسكان الصحراء من أهالي البادية، فضلاً عن ملاعب عدة تم إنشاؤها مؤخراً لهذه المناسبة الكبيرة كاستاد أحمد بن علي، واستاد الجنوب، واستاد خليفة الدولي، واستاد المدينة التعليمية، واستاد لوسيل، واستاد 974، واستاد الثمامة.. وجميعها سيعاد تشكيلها بعد البطولة لتصبح تراثاً دائماً لكأس العالَم 2022 إلى ما هو أبعد من حدود قطر، حيث سيتم تفكيكها ومنحها إلى الدول النامية كمساعدة من قطر لتحسين البنية التحتية الرياضية لتلك الدول.

ومن المتوقع أن يتم إنشاء 22 ملعباً جديداً في الدول النامية بعد انتهاء المونديال في لفتة إنسانية جيدة. ودولة قطر إحدى دول الخليج العربي في منطقة جغرافية مفعمة بالكرم والوفاء للتراث والأمجاد، حيث يلتقي الماضي بالحاضر ويمتزج الأمس باليوم، في خليط تراثي حضاري عريق لافت، فأينما تنقَّلتَ بين دول الخليج سيأسرك ماضيها ويبهرك حاضرها بامتداده الجميل في ماضيها.

وهكذا تبدو الحياة في هذه البقعة من العالم، بين عبق التراث وازدهار الحاضر، في ملحمة ثقافية تزدان بتاريخ تليد وتستند إلى نهضة وازدهار في قوالب حضارية أصيلة. وبينما يستمتع الزائر برؤية التحف المعمارية وناطحات السحاب والحضارة العمرانية، سيرى المباني القديمة والأسواق الشعبية، وسيلحظ نمط الحياة واللباس التقليدي البسيط لأبناء الخليج الذي يتباين من منطقة إلى أخرى بتفاصيل دقيقة وغاية في الروعة.

الخليج محط أنظار العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، ولن يتجاوز أي زائر لهذه المنطقة تاريخَها وماضيها وما كانت عليه في السابق وما أصبحت عليه في وقتها الحالي، وكيف تحولت من صحارٍ تسكنها قبائل بدوية تعمل بالرعي والصيد إلى أن أصبحت كيانات اقتصادية عملاقة يشار إليها بالبنان.. هذا إضافة إلى تقدمها الكبير في المجال السياحي، وتصدُّرها اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً، في طفرة تقدم شملت المجالات كافة، وأهمها المجال الاقتصادي الذي يعد أبرز المقومات التي ساهمت في رفع المنطقة عالمياً، حيث تم التحول الكبير من صيد الأسماك وتجارة اللؤلؤ وتربية الأغنام والرعي والزراعة، إلى دول حديثة تملك أهم الشركات الاقتصادية العاملة في مجال إنتاج الطاقة وخطوط إمداداتها العالمية الكبرى، ولديها أفضل الجامعات وأحدث نظم التعليم التقني المتطور، مروراً بأعداد الطلاب المبتعثين للدراسة في أشهر جامعات العالم، في انطلاقة تعليمية كبرى لا مثيل لها!

إن منطقة الخليج العربي أعجوبة جغرافية في تسارع نهضتها ونمو حضارتها، وأعجوبة بشرية في تمسك الشعوب بقياداتها، وأعجوبة ثقافية في تمسكها بتراثها كعمق لحاضرها وخريطة مستقبلها.. ومن يجمع الجغرافيا والحضارة والثقافة وعبق التراث، فإنه لا شك في قمة الازدهار والتقدم!