تدخل الحرب الطاحنة في أوروبا شهرها العاشر دون أن يلوح في الأفق بصيص أمل على أنها قد تضع أوزارها قريبا.

هي حرب لم تشهد مثيلا لها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، بيد أنها قاسية وفيها مظاهر كثيرة للتوحش الذي قد يصل إليه بنو البشر عند تغليبهم كفة الشر على الخير.

ويصدق الباحثون عند تأكيدهم أن القسوة والوحشية التي ترافق هذه الحرب لم تشهدها أي من الصراعات التي وقعت في العالم بعيد الحرب العالمية الثانية.

والحروب لا تقاس بإفرازات ساحة المعركة، ولا سيما عندما يكون الخصمان مدججين بأحدث أسلحة التدمير والفتك. وتزداد تبعات الحروب بصورة عامة بازدياد المكانة العسكرية والاقتصادية للداخلين فيها إن بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وهذا هو شأن الحرب في أوروبا. ميدانها حتى اللحظة الأراضي الأوكرانية، أما مداها فمحسوس في العالم أجمع، لكن وقعها على الدول الأوروبية الغربية شديد إلى درجة صار من العسر تحمله.

والحروب ليست ميدانا لجعجعة السلاح وتلاقي الجيوش فحسب. المصالح، ومنها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية، تلعب دورا بارزا.

ومن ضحايا الحروب كثير من القيم والمفاهيم التي كان يراها أصحابها أشبه بالمقدسات، وإذا بها تنهار في حمي الوطيس.

أليس هذا ما يحدث أمام ناظرنا؟ ألم تر كيف تتكالب الدول الغربية، والأوروبية منها على وجه الخصوص، لحماية مصالحها حتى إن ذهبت الليبرالية والعولمة إلى الجحيم؟

الليبرالية والعولمة تميزان المجتمعات الغربية. المصطلحان، مفهوما وممارسة، ركن وعماد التمدن والحضارة الغربية.

"أين صارت الليبرالية؟ أين هي العولمة؟" هاتان العبارتان تترددان لا بل أصبحتا مثل اللازمة في كتابات المفكرين والمنظرين الأوروبيين الذين يرون بأم أعينهم شارات الانهيار والسقوط منقوشة على الحائط.

منذ أشهر يجتمع القادة الغربيون وبينهم راعية الاقتصاد الليبرالي ـ الولايات المتحدة ـ لإيجاد مخرج فيه يضعون سقفا سعريا محددا للنفط الروسي.

وكانت توقعات "الاقتصادية" في محلها عندما رأت أن محاولات فرض سعر للنفط الروسي يقل كثيرا عن السعر في الأسواق العالمية محكوم عليها بالفشل.

وفي محاولتهم الفاشلة هذه، أرسلوا رسالة، ليس إلى غريمهم الروسي فقط، بل إلى الدول المنتجة الرئيسة للنفط، مفادها أن الغرب، لو ضاقت به الحيل، للجأ إلى ما لا يخطر في البال، حتى إن كان على حساب المبادئ التأسيسية لتمدنه وحضارته.

والرسالة هذه، أظن أنها كانت من العوامل التي جمعت المنضوين تحت خيمة "أوبك +" من كبار المنتجين على التآلف والتآزر واتخاذ قرارات رآها الغرب "معادية"، لكنها لم تكن إلا إجراء مشروعا لحماية سلعتهم الاستراتيجية، عماد اقتصاداتهم.

أعسر اختبار نمر فيه، أفرادا ومجتمعات ودولا، هو عند وقوع المصائب والشدائد. ولا غرو أن نرى كيف يهرع كل طرف إلى تبني مصالح والعمل الحثيث على تحقيقها، ضاربا بالمبادئ الأساسية عرض الحائط.

ونقرأ عن خلافات جوهرية بين ألمانيا وفرنسا، لأن كلا صار يذهب في الاتجاه الذي يلبي متطلبات اقتصاده حتى ولو أتى ذلك على حساب الآخر.

ونقرأ، نقلا عن مسؤولين أوروبيين كبار، امتعاضا من سياسات الولايات المتحدة من الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية، لأنها تستغل الصراع لتكديس الأرباح من تجارتها مع دول السوق الأوروبية المشتركة.

هناك صراع يحتدم بشدة وقع المعارك مع تفاقم الثلج والصقيع مع مقدم الشتاء بين الدول الأوروبية الغربية من جهة، وبينها وبين الولايات المتحدة من جهة أخرى.

الصراع لم يعد محصورا في الحرب الدائرة مع روسيا أو حول تعزيز دعم أوكرانيا ضد روسيا، إنه صراع ومنافسة على الحمائية، التي تعاكس توجهات ومبادئ العولمة وأسس الاقتصاد الليبرالي.

وكانت المفاجأة الكبرى عندما تبنت الولايات المتحدة نهجا حمائيا لدعم صناعاتها في مواجه التضخم، ما يقلل تكلفة صادراتها الصناعية مقابل التكاليف العالية للصادرات الأوروبية التي أساسا تعاني اقتصاداتها أزمة التضخم والركود في آن.

وشد الرئيس الفرنسي الرحال إلى واشنطن، في زيارة كان معدا لها سلفا، لكنها صارت كأنها زيارة طارئة، يحاول جس النبض إن كانت الولايات المتحدة على استعداد لتقديم نفط وغاز بأسعار منخفضة للدول الأوروبية. وكذلك سيسعى إلى معرفة إن كان في الإمكان منح الدول الأوروبية حصة من بلايين الدولارات التي خصصتها واشنطن لدعم صناعتها.

لقد هدد الأوروبيون بشن حرب تجارية مع الولايات المتحدة في حالة عدم الاكتراث لمطالبهم.

لكن متى اكترثت الولايات المتحدة لما يسميه بعض ساستها "القارة العجوز؟".

ومتى كانت المبادئ سامية تصل رتبتها القداسة؟

وها نحن نشهد كيف تركن الليبرالية والعولمة جانبا، وتفوز "البراجماتية الاقتصادية".

لكن متى لم يكن الغرب براجماتيا؟ ومتى كانت المبادئ هي الرائدة في السياسة؟