تتسلّط الأنظار على إيران وتركيا وإسرائيل لمراقبة مستويات التصعيد ودرجات الاحتواء وسط قلق أميركي وأوروبي وروسي، أسبابه وخلفياته مختلفة. إيرانياً، هناك مساعٍ أوروبية قادها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنزع فتيل المواجهة العسكرية المحتملة وذلك أثناء زيارته الى واشنطن حيث شدّد على المخاوف الأوروبية من انجرار الولايات المتحدة الى الخيار العسكري مع إيران وسعى وراء ترتيبات انتقالية ترحّل الاضطرار لحسم المشكلة النووية مع طهران وتحيي إمكان العودة الى المفاوضات.

إسرائيلياً، أوروبا والولايات المتحدة تجدان نفسيهما في خشية من تطرّف حكومة بنيامين نتنياهو، ووطأة هذا التطرّف ليس فقط على الفلسطينيين وإنما أيضاً في إطار المواجهة العسكرية الإسرائيلية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المباشرة منها وفي ساحات الحروب بالنيابة، لا سيّما السورية. وفي سوريا، تبرز المخاوف الروسية من تداعيات عزم تركيا على فرض "حزام أمني" لها يقتضي عمليات عسكرية برّية قد تضطر بموسكو وطهران الى الانخراط عسكرياً حماية لنظام بشار الأسد، وهذا بدوره يقلق واشنطن والعواصم الأوروبية التي تحرص على تماسك حلف شمال الأطلسي "ناتو" الذي تنتمي تركيا إليه وأولوياته اليوم هي الحرب الأوكرانية.


البدء بتركيا وإعلان الرئيس رجب طيب أردوغان عزم بلاده على تنفيذ عملية عسكرية بريّة داخل سوريا لفرض "حزام أمني" وبسط سيطرة القوات العسكرية التركية في الأراضي السورية تحت مبررات حماية الأمن القومي التركي من الإرهاب الآتي عبر الحدود التركية - السورية. الرئيس التركي صعَّد في مواقفه العلنية لدرجة أنه بات عاجزاً عن التراجع مهما تلقّى من تحفيز أو تحذير من واشنطن وموسكو بألاّ يجتاح الأراضي السورية.

موسكو في وضعٍ أكثر إحراجاً لها من واشنطن وذلك لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يجد نفسه مضطراً للانجرار عسكرياً في الساحة السورية ليحمي حليفه بشار الأسد وليدحض الانطباع الذي سيترتب على روسيا إذا وقفت متفرِّجة على انزلاق سوريا الى خارج القبضة الروسية.

مصدر روسي مطلِع على الملف السوري قال إن الأسد بعث رسالة سريّة الى بوتين طالباً منه "التدخّل" interfere بشكل أو آخر، سياسياً أو عسكرياً، لوقف التوغّل التركي، وإن الرئيسين سيتكلمان هاتفياً قريباً لبحث الخيارات. والخيارات محدودة. ذلك أن السيد بوتين ليس قادراً على إيقاف السيد أردوغان نظراً لانحسار القدرات العسكرية الروسية في سوريا بسبب الحرب الأوكرانية. لكن الرئيس بوتين يقرأ الإهانة له شخصياً ولروسيا إذا نجحت تركيا في سوريا. وبالتالي، قد يضطر للتدخل عسكرياً إذا أصبح الوضع "حرجاً" Critical، لأنه لا يستطيع نسيان سوريا والأسد. وفي مثل هذا الوضع، يبرز الدور الإيراني العسكري والحاجة الى مضاعفته على الأراضي السورية.

القيادة الإيرانية جاهزة للدور الذي تفرضه التطورات الميدانية عليها في سوريا والتي يقتضيها القرار الروسي وإبقاء الأسد في السلطة. وعليه، إن إيران مستعدّة لتوفير المساعدة العسكرية الضرورية بما في ذلك المزيد من القوات الإيرانية في الساحة السورية، إذا تطلّب الأمر لوقف تركيا عن زحفها وسيطرتها على سوريا.

تركيا ستفرض الحزام الأمني عاجلاً أم آجلاً. القيادة التركية تدرك أهميتها لدى دول حلف الناتو، ولذلك ستنفّذ توعداتها. ثم أن إحراج فلاديمير بوتين وتعرية ضعف القدرات العسكرية الروسية أمر محبّب لدى الدول الغربية، وهو رغبة باطنية لدى رجب طيب أردوغان الذي بينه وبين بوتين علاقة معقّدة ليست أبداً وديّة، لكنها في الوقت نفسه علاقة براغماتية. وهناك مخابرة هاتفية قريباً بين الرجلين ستكون موضع اهتمام كبير، أوروبياً وأميركياً.

ما يخشاه الأوروبيون هو أن تتطوّر الأمور في الساحة السورية الى أزمة وصراع عسكري ليس فقط بين تركيا من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى، وإنما أيضاً لناحية المواجهة الإيرانية - الإسرائيلية وتداعياتها وإفرازاتها على مختلف الملفات المعنية بإيران. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية ما زالت ذات أهمية لدى الدول الأوروبية. وهذه الدول لا تثق بأجندة بنيامين نتنياهو الصدامية مع إيران والتي قد تتبنّى عمداً توريط الولايات المتحدة عسكرياً في مواجهة مع إيران.

لهذه الأسباب وغيرها، سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء محادثاته مع الرئيس الأميركي جو بايدن وراء الحصول على ضمانات بألا تنجرّ الولايات المتحدة الى عمل عسكري ضد إيران- يختلقه بنيامين نتنياهو. ماكرون وقيادات أوروبية أخرى، وكذلك أوساط أميركية عديدة، تخشى من مغامرات نتنياهو إيرانياً كما فلسطينياً.

لذلك ارتفعت أصوات أميركية شملت شخصيتين محترمتين عمليّاً في إدارات سابقة -هما آرون ديفيد ميلر ودانيال كيرتزر السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل- الى مطالبة الرئيس بايدن بالحزم مع نتنياهو وتطرّف الحكومة الإسرائيلية. مقالتهما في صحيفة "الواشنطن بوست" حضّت إدارة بايدن وحكومات الدول العربية التي طبّعت مع إسرائيل بموجب اتفاقات ابراهامز على الوقوف في وجه خطط نتنياهو وحكومته العنصرية العازمة على بناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية وتصعيد العنف ضد الفلسطينيين وتغيير الوضع على الأرض في القدس والضفة الغربية.

مصادر مطلِعة على ما حمله الرئيس الفرنسي الى واشنطن أشارت الى أن المخاوف ذاتها كانت حاضرة كما حضّ إدارة بايدن على التنبّه إلى خطورة ما قد يحدث على الساحة الفلسطينية - الإسرائيلية.

إنما ما ركّز عليه الرئيس ماكرون على صعيد منطقة الشرق الأوسط هو إيران، وما حمله ماكرون شمل رسالة أوروبية الى واشنطن فحواها أن أي مواجهة عسكرية مع إيران ليست في المصلحة الأوروبية، بل إن أوروبا غير مستعدّة لدعم أي إجراءات عسكرية ضد إيران حتى لو كانت أميركية وليس فقط إسرائيلية. هذه المواقف هي بمثابة موسيقى في الأذن الإيرانية. فإيران ما زالت تحلم بشق الصفوف الأميركية - الأوروبية، وهي ما زالت تأمل بأن تتمكّن أوروبا من إعادة إحياء مفاوضات الصفقة النووية JCPOA وإقناع إدارة بايدن بها.

إحدى أولويات ماكرون تعلّقت فعلاً بإحياء المفاوضات النووية السنة المقبلة لأن العودة الى المفاوضات اليوم ما زالت مستحيلة. وكي يكون في الإمكان التوصّل الى استئناف إحياء الصفقة النووية، هناك شروط استجدّت على المفاوضات أبرزها التالي: أولاً، ضرورة تجميد إيران لنشاطاتها النووية تحت مراقبة فاعلة. وثانياً، إضافة مسائل الصواريخ والمسيّرات الإيرانية الى المباحثات وكذلك الإجراءات الإيرانية الإقليمية بما فيها تزويدها الشركات والميليشيات التابعة لها بالأسلحة.

بكلام آخر، فحوى المعادلة الفرنسية هو الاحتواء -احتواء قابلية كل من إيران وإسرائيل للمواجهة العسكرية- وذلك عبر ضمانات أميركية بأن الولايات المتحدة لن تقوم بعمليات عسكرية ضد إيران. هذه الرسالة لها وجهتان أساسيتان هما: إسرائيل التي ستتردّد إذا كانت واثقة من أن الولايات المتحدة لن تدعمها عسكرياً، وإيران التي ستتنفس الصعداء إذا ضمنت حقاً أن أميركا لن تشن عمليات عسكرية ضدها مهما سعت إسرائيل وراء ذلك. وهكذا يتم إلغاء تفعيل المواجهة للوقت الحاضر في شبه ضوء أصفر لكل من إسرائيل وإيران للامتناع عن التصعيد العسكري- أقلّه موقتاً.

مثل هذه التفاهمات الانتقالية هدفها العودة عن شفير الهاوية. ما أراده الرئيس الفرنسي هو إبلاغ إيران أولاً، أن إحياء الصفقة النووية ما زال وارداً بالرغم من دخول JCPOA في الموت السريري بسبب دور إيران العسكري إلى جانب روسيا في الحرب الأوكرانية كما بسبب عنف القمع للتظاهرات الإيرانية على أيادي النظام. وثانياً، أن أوروبا لن توافق على عمليات عسكرية ضد إيران شرط أن تتصرّف طهران بمسؤولية في الملف النووي. الرسالة الفرنسية الإضافية الى طهران هي أنه في وسع فرنسا وأوروبا أن تساعد إيران في التخلّص من العقوبات عبر العودة الى المفاوضات والتوصّل الى الصفقة النووية، إنما هذا يتطلّب حسن السلوك الإيراني لشراء الوقت الى حين التمكّن من استئناف المفاوضات.

ما تريده فرنسا من إيران إقليمياً هو الإلتزام بالسكون لبنانياً وتجنّب الاستفزاز خليجياً. فأمن الدول الخليجية العربية بات جزءاً من المواقف الأميركية الجديدة ما بعد الانعطاف بعيداً من طهران. تريد فرنسا أن تقبض من إيران لاحقاً ثمن فصل الولايات المتحدة عن الاندفاع الإسرائيلي العسكري ضد إيران -فإيران مهمّة اقتصادياً لفرنسا ولذلك أراد الرئيس ماكرون أن يتعهّد الرئيس بايدن له برؤية أميركية منفتحة على الحلول الوسط مع إيران. تريد باريس أيضاً أن تنجح جهودها في لبنان ولذلك تحتاج الى حسن النية الإيرانية- وربما تضطر أن تقدم من جهتها تنازلات الى إيران.

هناك رأيان متضاربان في شأن نتائج زيارة ماكرون الى واشنطن، أحدهما يؤكد أن الزيارة أثمرت بما يثلج صدر إيران ويحتوي اندفاعها الى العمليات العسكرية الاستباقية ضد إسرائيل والتي لوّحت بها، وأن عنوان الزيارة هو النجاح في احتواء العمل العسكري الإسرائيلي عبر تحييد المشاركة الأميركية في مثل هذا العمل ضد إيران.

الرأي الآخر يقول إن نجاح الزيارة من هذا المنطلق ليس سوى في مخيّلة الجانب الفرنسي المندفع الى صنع الصفقات. هذا الرأي يصرّ على استحالة تقديم الرئيس بايدن ضمانات الى الرئيس ماكرون في أن الولايات المتحدة لن تقف إلى جانب إسرائيل عسكرياً في مواجهة إيران. فالقائلون بهذا الرأي يعتقدون أن التغيير في مواقف إدارة بايدن نحو إيران ليس عابراً ولا سطحياً بل إنه تطوَّر الى دعم إسقاط النظام مهما يصدر من تصريحات علنية تعكس ذلك.

ما بين الرأيين، واضح أن الخيارات العسكرية تترافق مع جهود العودة الى المفاوضات، وأن لغة التهديد والترغيب مستمرة إنما بغموض أيٍّ منهما بلف أو مخادعة bluff وأي منهما جدّي.

الأنظار تتوجّه الى تطوّرات في الأسابيع القليلة الأخيرة من هذه السنة بقلق من الحرب الأوكرانية أمام عدم قدرة كل من روسيا وأوكرانيا على القيام بعمليات عسكرية حاسمة. الوضع في سوريا يثير القلق أيضاً في الأسابيع المقبلة نتيجة القرارات التركية والمواجهات الإيرانية - الإسرائيلية هناك. ثم هناك دائماً ذلك الخوف الكامن من تطوّرات مرعبة آتية من كوريا الشمالية.

إنما إذا نجحت فرنسا حقاً في تحييد الاندماج الأميركي العسكري مع إسرائيل في عمليات عسكرية ضد إيران، لعلّ ذلك يريح الأعصاب قليلاً. هذا ما لم تقرّر طهران استخدام الاطمئنان إلى التحييد الأميركي لتنفيذ توعدها بحرب استباقية ينظر اليها كثيرون في أنها بدعة بلف إيرانية للتغطية على تهاوي طهران في الارتباك.