حشد "الحرس الثوري" الإيراني قوات مدرّعة ووحدات خاصة، مهدّداً باجتياح إقليم كردستان العراق لإنهاء وجود أحزاب كردية إيرانية معارضة فيه، ما لم يقم الجيش العراقي والبيشمركة بهذه المهمة، أقلّه بإبعاد تلك الأحزاب عن الحدود التي بات "الحرس" يشترط أن يتولّى الجيش تأمينها مع البيشمركة، لا أن تنفرد الأخيرة بذلك، ما يشير إلى تراجع غير مسبوق في الثقة بين طهران وأربيل، وحتى بينها وبين السليمانية التي اعتُبرت دائماً أقرب إليها.

في الوقت نفسه، تواصل تركيا حشد قواتها على الحدود مع سوريا استعداداً لعملية عسكرية برّية هدفها توسيع "المنطقة الآمنة" وإبعاد أكراد "قوات سوريا الديموقراطية" إلى عمق 30 كيلومتراً في الشمال السوري. لكن العملية التركية واجهت منذ بدء الحديث عنها رفضاً روسياً - إيرانياً وممانعة أميركية لا تزال حتى الآن لفظية. غير أن ظروف حرب أوكرانيا وحاجة موسكو إلى تسهيلات كثيرة تقدمها أنقرة بدّلتا الموقف الروسي، فأصبح أقرب إلى قبول الأمر الواقع وإلى نقل الشروط التركية إلى الأكراد، وبالتالي نصحهم بالموافقة عليها، وصولاً إلى مصارحتهم بأن أميركا وروسيا لا ترغبان في مواجهة الجيش التركي، بل إن روسيا لن تستطيع منع العملية التركية متى بدأت.

لا جديد عملياً في هذه التطوّرات بالنسبة إلى الأكراد، إذ اعتادوا على أن تتوصّل الدول إلى تسويات في ما بينها على حسابهم، وقد عاشوا خلال المئة عام الماضية يغتنمون الفرص التي تلوح لتحقيق حلمهم بـ"دولة مستقلّة" معترف بها، أو لإقامة "كيانات مستقلة" على طريق هذه "الدولة"، لكنهم عانوا أيضاً خيبات أمل طوال تلك الحقبة من كل القوى الدولية التي دعمتهم وظنّوا أنها تدعم هدفهم الاستراتيجي، ثم اكتشفوا أنها استخدمتهم لتحقيق أهداف ضد الدول الأربع (تركيا، إيران، العراق وسوريا) التي يشكّلون جزءاً من سكانها. والواقع أن نمط الاستخدام والخذلان مرشّح للاستمرار، فالأكراد يستغلّون استخدامهم في تطوير قدراتهم ما دام لا خيارات أخرى متاحة لهم، أما القوى الدولية والإقليمية فتستثمر خذلانهم في تحصيل مكاسب اقتصادية أو استراتيجية مع الدول المعنية.

معروفٌ أن "الحرس" الإيراني يتذرّع بأن الاحتجاجات الشعبية في كردستان إيران تبرّر الذهاب إلى العراق لتصفية المعارضين الأكراد، متجاهلاً أن الاحتجاجات باتت تشمل جميع الأقليات الأخرى (البلوشية والآذرية والعربية) التي تعاني التهميش والاضطهاد والبطش، بل إن قضايا "المرأة والحياة والحرية" تستحث جانباً كبيراً من الفرس أنفسهم.

لكن كردستان إيران تبقى بالنسبة إلى طهران مهد هذه الاحتجاجات التي اندلعت بعد مقتل الشابة الكردية مهسا أميني تحت التعذيب لدى "شرطة الأخلاق" (منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي)، وهذا كافٍ لإقلاق سلطات الملالي التي لا تنسى أن كردستان إيران كانت، تاريخياً (جمهورية مهاباد 1945)، مصدر الحراك في مختلف مواطن الأكراد في الدول الأربع كما في المهاجر. لذلك تركّز السلطات الآن على إخماد انتفاضة الأكراد، ظنّاً بأنها فقط نتاج تحريض من قيادات الأحزاب المعارضة (الحزب الديموقراطي الكردستاني وهو أقدمها، وحزب "كوملة" اليساري، و"حزب الحياة الحرّة"/ "بيجاك"، ومنظمة "خبات" القومية) اللاجئة منذ الثمانينات في كردستان العراق وتعرّضت مقارها ومعسكراتها أخيراً لقصف إيراني كثيف. الأرجح أن ضرب المعارضين في العراق لن يكسر الانتفاضة داخل إيران، لكن طهران تتخذها ذريعة للإيحاء بأن أزمتها خارجية بحتة، وتنتهزها فرصة لتصفيتهم.

يسود الدوائر الدبلوماسية اعتقاد بأن غزو روسيا لأوكرانيا بات "مُلهماً" لدول أخرى، لذلك يثير التهديد باجتياح إيراني برّي المخاوف في أربيل كما في بغداد، لأنه مرشح لتقويض الوضع القائم بين الإقليم والدولة العراقية الاتحادية، وبالتالي كان لا بد من الرضوخ للتهديدات والشروط التي حملها قائد "فيلق القدس" إسماعيل قاآني ولم تزعج حكومة محمد شياع السوداني التي تتوزّع ميليشيات إيران معظم حقائبها، إلا أنها أقلقت أكراد الإقليم إزاء حملة تأمين الحدود التي قد تتسبّب بقتال كردي - كردي ما دامت البيشمركة ستشارك فيها. لكن المفارقة التي انكشفت في السياق أن إيران لا تدفع باتجاه "إنهاء وجود كل الجماعات المعارضة لدول الجوار على الأراضي العراقية"، بل تريد أولوية لتأمين حدودها من دون أن تكون معنية بالحدود التركية، لأن "الحشد الشعبي" (أي إيران) يدعم وجود "حزب العمال الكردستاني" (بي كي كي) وقتاله المزمن ضد الجيش التركي انطلاقاً من شمال العراق.

الاجتياح التركي لشمال سوريا ليس مجرّد تهديد، فله سوابق في عمليات "درع الفرات" (2016) و"غصن الزيتون" (2018) و"نبع السلام" (2019)، وتسعى أنقرة هذه المرّة إلى الوصل بين "مناطقها" وتوسيع رقعتها. في كل مرّة كانت تجد سبيلاً للحصول على موافقة أميركية و/ أو روسية، أو على صمت وتغاضٍ، وفيما هي تنسّق مع موسكو تقول إنها "لا تطلب إذناً من أحد"، ما يُفهم بأنه موجّه ضد الأميركيين الذين يدعمون أكراد "قسد" الذين قاتلوا تنظيم "داعش" وتعتبرهم أنقرة "إرهابيين" بسبب وجود "حزب العمال الكردستاني" في صفوفهم، وقد اتهمته بالضلوع في تفجير شارع الاستقلال في اسطنبول. ما يستدعي التساؤل هنا: لماذا لم يحاول الأكراد الانضباط في مناطق سيطرتهم، ولماذا لم يهتم الجانب الأميركي بضبطهم لمعالجة الهواجس التركية، وهل وعدهم بدعم إقامة "كيان" خاص بهم، وإذا كانت هناك فعلاً تعهّدات أميركية وروسية لتركيا منذ 2019 بالعمل على انسحاب الأكراد من تل رفعت ومنبج وعين العرب/ كوباني فماذا كانت دوافع عدم تنفيذها؟

تخشى واشنطن تداعيات العملية التركية وأثرها على وجودها في شمال شرقي سوريا وعلى محاربة "داعش"، خصوصاً أن لا قنوات حالياً للتفاهم مع روسيا على حدود التحرّك التركي. من جانب آخر تبدو تركيا مندفعة إلى عمليتها البرّية كجزء من تفاهمها مع روسيا على إجراء مصالحة بينها وبين النظام السوري، لكنها تتطلّع إلى مصالحة مشروطة أولاً بالتزام دمشق ضبط الأكراد وعدم استخدامهم ضدّها، وثانياً باستمرار الوجود التركي في الشمال إلى حين التوصّل إلى حلٍّ سياسي للأزمة السورية. وإذا نجحت تركيا بتغليب الأمر الواقع وإبعاد خطر "قسد" عن أراضيها، فليس واضحاً ما سيكون عليه ردّ الأكراد، إذ إنهم هدّدوا بالتخلّي عن محاربة "داعش" وبإطلاق مقاتليه المعتقلين لديهم، لكن سيخسرون عندئذ كل دعم أميركي، كما أن رضوخهم لمطالب الأتراك (والروس) سيُفقدهم التمدّد الجغرافي الذي حقّقوه بين 2015 و2019 وسيُضعف موقفهم في أي تفاوض مع النظام الذي رفض أطروحاتهم لحل سياسي والضمانات التي يريدونها للوضع العسكري والإداري الذي أنشأوه في مناطقهم.