كشف الدوري العالمي لكرة القدم (المونديال) المقام في العاصمة القطرية، عن تجارب في العلاقات الإنسانية، نادراً ما تظهر في مناسبات أخرى. وأبرزها في رأيي، تقبل الغريب، و«الاضطرار» إلى تجربة التسامح، سيما بالنسبة لمن لم يجربه أو اعتاد إنكاره قبل ذلك.

يُعدّ المونديال مناسبة استثنائية، لأكثر من سبب، أولها أن الجميع، المتسامحين والمتعصبين، يريده أن ينجح أو على الأقل أن يمضي بلا خسائر. ولهذا يدرك الجميع أن من يحاول التشويش، سوف يكون في مرمى سهام الجميع، ولن يشفع له أحد.

السبب الثاني، أنه حدث مضغوط جداً من حيث الوقت والمكان، فهو أشبه بفيلم سينمائي يحكي في ساعة واحدة أحداثاً تستغرق، في الظروف الطبيعية، أشهراً أو سنوات. ومن هنا، فإن الجميع يستذكر كل ما يجري من أحداث وما يتولد عنها من انطباعات أو مواقف. صور الناس والحوادث ومعانيها: من الفتاة التي تجرب الحجاب، والأخرى التي كشفت عن مفاتنها ولفتت أنظار الحاضرين وكاميراتهم، إلى شعار «.... كسرنا عينه»، إلى رفض أحد الفرق ترديد النشيد الوطني لبلاده، وحتى توزيع الأهالي الحلويات على اللاعبين والمتفرجين، وصولاً إلى مطاعم «البيك» السعودية المعروفة، التي جهزت مطاعم متنقلة لبيع منتجاتها، من أجل التعريف بماركتها في أنحاء العالم... إلخ.

ما جرى في هذا الحدث الضخم يكشف عن حقيقة أن الناس جميعاً، كانوا مستعدين للتغاضي عن الفوارق الثقافية التي تبعدهم عن بعضهم بعضاً.

بل رأينا بعضهم يبادر فعلاً بتحويل هذه الفوارق إلى عوامل للتفاهم والتلاقي. من ذلك مثلاً، محاولة بعض الضيوف الحديث بلغة الآخرين أو ارتداء أزيائهم أو الغناء معهم، أو حتى مجرد الاستماع إليهم، واستقبال الطرف الثاني لهذه المبادرات، باعتبارها «مشاركة في المرح». فهذه وتلك، تدل جميعاً على أن جمهور الناس يمكنهم أن يغفلوا – ولو مؤقتاً – دواعي الفرقة والخصام ويعاملوا بعضهم كـ«بني آدم» وإن اختلفت مصادرهم أو مشاربهم.

لعلنا نتذكر أحياناً الكلام الثقيل الذي يقوله أرباب الآيديولوجيا، عن مخاصمة الكافر وإظهار النفرة منه.

وهذا مثال عن توجيهات كثيرة، يزعم بعضها أنه يرتدي عباءة الدين، ويلبس غيره عباءات قومية أو وطنية، أو غيرها.

لكن أهل التقاليد وأهل الحداثة، الفقراء والأغنياء، أظهروا جميعاً قدرة فائقة على التلاقي والتفاهم. نعلم طبعاً أن الناس يختلفون في المصالح.

ولو بقي هؤلاء مدة أطول فلربما اختلفوا وتنازعوا. لكننا نتحدث هنا عن القابلية والدوافع العفوية، التي تشكل الدافع الأقوى والأكثر تأثيراً في تعاملاتنا مع الناس. أن الجهل بالغير هو أبرز أسباب التناكر، وهذا أمر يشترك فيه كل البشر. وقد ورد في الأثر «الناس أعداء ما جهلوا». لكن ثمة عوامل تعزز هذا النزوع الطبيعي وتبرره، فتحوله إلى سلوك حاكم ومرغوب.

بمعنى آخر، فإنه بدلاً من أن يقول الإنسان لنفسه: عليك بالتعرف على الناس كي لا تعاديهم بلا مبرر، فسوف يقول هو لنفسه أو سيقول له آخرون: ستكون أقرب إلى الفضيلة لو أنكرت هذا وعاديت ذاك؛ لأن العلاقة بين الناس مشروطة باتفاقهم في العرق أو الدين.

زبدة القول، أن مناسبة «المونديال» أظهرت أن المسافات قصيرة بين بني آدم، وأن كل ما يحتاجون إليه هو الغفلة، ولو مؤقتاً، عن دواعي التناكر والتنازع، والعودة لفطرتهم الأولى، أي نزوعهم للعيش مع بقية بني آدم. كل ما نحتاج إليه هو تذكير أنفسنا بهذه الحقيقة، وتهميش دواعي الخصام والتنازع والتناكر، حتى تلك التي ترتدي عباءة مقدسة.