أمثلة وحكم وقصص رمزية يتناولها الناس فيما بينهم، وهي تدور على السنتهم على مدار العمر، وبعض القصص هي من واقع الحياة ولها وقع مؤثر في النفس، وهي في العادة قصص قصيرة لكنها خزينة من الحكم والأمثال، والناس تستسيغ من القصص تلك التي تنبت ثمارًا من الحكم والأمثال.. لا يعرف لها بداية وليس لها نهاية، وهي قد تحاكي حياة كل فرد منا، وكأن المتلقي يتحسس منها موضعه في الحياة، أو تنير للناس طريقهم الى حسن المآب وخاصة فيما يرتبط بطبيعة العلاقة بين الناس، أو مفاهيم وقيم أخلاقية، وهي قيم نحتاج إلى استذكارها وتذكرها وتذكيرها مرارًا عديدة حتى تترسخ في أذهاننا، وسماع أو قراءة ما يستجد من أمور تقتضيها تحولات الزمان التي تضع الإنسان في غفلة عن نفسه وقيمه الإنسانية وموجباته الاجتماعية.. كل منا يُذَكِّرُ الآخر بما غفل عنه أو خفى عليه، وهذا التذكير المتبادل هو بمثابة دروس نواصل التعلم منها، وحقًا فإن الحياة مدرسة، وقدر الإنسان أن يتعلم من المهد إلى اللحد.. ومن لا يصغي إلى دروس الحياة يظلم نفسه ويظلم الآخرين معه.

تتعدد الدروس المستخلصة من هذه الامثلة والحكم والقصص الرمزية بتعدد مستوى الفكر واختلاف أنماط الذهن وطبيعة الشخصية وموضعه الطبقي، وهي في محصلتها ثمار متعددة ومختلفة، فكل إنسان له نظرته وفهمه وحتى حاجته اللاشعورية، وهي التي تحدد نوع الثمرة التي يكتسبها الإنسان الفرد من دروس الحياة.

من القصص الواقعية التي لفتت نظري، وأفرزت من ذهني بعض الأفكار، قصة تجمع بين السياسة ورياضة كرة القدم ودور الثقافة وأهميتها. أبطال القصة سياسي متنفذ فاسد وسياسي وطني طاهر وزمرة من قتلة مأجورين. السياسي الفاسد يستأجر القتلة لقتل السياسي الوطني؛ لأنه يفضح الفساد في عموم وطنه، وهذا يؤثر سلبًا على مصالحهم وعلى مواقع نفوذهم، مما يقتضي بالنسبة لهم التخلص منه ومن أمثاله وحتى يكون عبرة للذين يريدون تطهير ساحة السياسة.. القصة قصيرة جدًا ومؤثرة جدًا وتعطي دروسًا عديدة. كان المطلوب من زمرة القتل فقط قتل السياسي وإغلاق ملفه بأسرع ما يمكن، ولكن الماجورين بسبب خلفياتهم الاجتماعية ونفسياتهم التي تشكلت في خضم الحياة من بؤس وشقاء وفشل، فقد تشكلت عندهم نزعة الانتقام من المجتمع فأصبحوا يستمتعون بتعذيب ضحاياهم قبل تنفيذ حكم القتل.. عذبوا ضحيتهم حتى صار كتلة لحمية تتنفس وهي غارقة في الدم، وأرادوا أن يحتفلوا بمهمتهم قبل الطلقة القاتلة، فجلسوا يشربون الخمر ويتحاورون في موضوع كرة القدم، شاركهم الضحية الحديث وهو ملقى على الأرض مضرّج بدمائه، خاصة أن له معرفة جيدة بكرة القدم؛ لأنه قرأ كتاب «كرة القدم في الشمس والظلام» للمؤلف ادواردو غليانو من أوروغواي. استساغ القتلة الماجورين حديث الضحية عن كرة القدم فأخذوا يصغون إليه بتركيز وإعجاب، وبسبب إعجابهم به تركوه في مكانه ولم ينفذوا فيه الحكم الذي أراده السياسي الفاسد، أي إن إعجابهم بهذا الانسان ذو الثقافة الواسعة، خاصة معرفته في شؤون كرة القدم، كان أجدى وأثمن من سعر قتله. القتلة المأجورين بهذا التحول في سلوكهم من تنفيذ مهمة القتل الى إلغاء المهمة و خسارة الأجر او السعر، يكشف عن جانب، او عنصر، له أهمية جوهرية في حياة الفرد، أرى أن هذا التحول، الذي أنقذ الضحية، يشير الى دلالة أن الانسان مهما كان شريرًا أو سيئًا، إلاّ أن عنصر الخير لم يمت في أعماق نفسه، بل إن هذا العنصر في حاجة الى محفز كي يستيقض.. وهذا هو أهم درس استشعرته من هذه القصة.. الضحية أنقذته، في واقع الأمر، ثقافته الواسعة، مما يعني أن زمرة القتلة المأجورين لو أنهم تناولوا أي موضوع آخر يتحدثون عنه فإن للمثقف نصيب من المعرفة فيه يفوق معرفتهم، وتكون النتيجة الإعجاب الذي يحفز الخير في أعماق النفس، وفي قصتنا إنقاذ نفس بريئة.

الموضوع الذي جمع بين الضحية وجلاديه، وهو كرة القدم، موضعه في الذهن مختلف، إذ أن الضحية كانت نظرته من نظرة مؤلف كتاب «كرة القدم في الشمس والظلام» الذي قدم الكتاب الى الاطفال باقة من هذه الكلمات القليلة: «هذه الصفحات مداة إلى أولئك الأطفال الذين التقيت بهم ذات مرة، قبل سنوات عديدة، فـي كاليّا دي لاكوستا. كانوا عائدين من لعب كرة القدم وهم يغنون:

لن تتبدل متعتنا، سواء أخسرنا أم ربحنا.

ربحنا أم خسرنا، متعتنا تبقى كما هي..».