استفاق العالم الثلثاء الماضي على أخبار محاولة "انقلاب عسكري"، لا يتعلق الأمر بدولة من دول جنوب الصحراء أو واحدة من بلدان الموز حيث الانقلابات عادةٌ وثقافةٌ سياسية وعسكرية في ظل ضحالة المؤسسات وحداثة الدولة، بل يتعلق الأمر بدولة بحجم ألمانيا.

نعم ألمانيا عاشت أجواء عمل عسكري يستهدف المؤسسات الدستورية في البلاد بحيث كان مخططاً السيطرة على البرلمان ومقار الحكومة وإعلان ألمانيا جديدة بحدودها التاريخية كما تدافع عن ذلك الحركة اليمينية المتطرفة "حركة مواطني الرايخ" وتنصيب هنري الثالث زعيماً، وهو رجل أعمال ألماني في عقده السابع يتحدر من أسرة ثرية وعريقة. المدعي العام الألماني كشف لوسائل الإعلام أن الشرطة الألمانية قامت بعمليات دهم واسعة لمراكز "حركة مواطني الرايخ" شملت 11 ولاية ألمانية وشارك فيها 3 آلاف من أفراد وحدات النخبة في جهاز مكافحة الإرهاب. ووفق الاستخبارات العسكرية الألمانية بحسب ما نشرته وسائل إعلام دولية، فقد بلغ عدد المعتقلين 25 شخصاً ومن بين المشتبه فيهم هناك جندي نشط في القوات الخاصة وعدد من جنود الاحتياط إضافة إلى قيادية في حزب "البديل" الألماني ونائبة برلمانية سابقة.

هذه الأحداث تمثل صدمة حقيقية ليس فقط في المجتمعات الغربية التي استقرت فيها المؤسسات وتُراكم فيها الدولة تجربة طويلة، بل إن الأمر مثير إلى درجة أن كثيراً من الأسئلة ستعود بقوة، خصوصاً في ما يتعلق بمسألة الديموقراطية ومصيرها.

لقد أفردت الأمم المتحدة يوم الخامس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) من كل سنة، بوصفه اليوم الدولي للديموقراطية، وككل سنة يخلد هذا اليوم بكثير من الشك والتوجس من مصير ومآل الديموقراطية في المجتمعات المعاصرة التي تبدو أقرب إلى تحقق تخوفات وهواجس موت الديموقراطية... هذا التوصيف شكل عنواناً لكتاب جان ماري جيهينو الذي بشر فيه بنهاية الديموقراطية، مؤكداً في السياق ذاته أننا مقدمون على عصر إمبراطورى جديد لا يعرف الحدود ولا الحرية، ويرى أن عام 1989 وضع حدّاً لعصر الدولة القومية، وقضى على القيم العتيقة كالأسرة والعفة. ويقدم جان ماري في الكتاب ذاته قراءة استشرافية لذلك المستقبل الإمبراطوري.

عام 1989 كان هو زمن سقوط جدار برلين، حيث ارتفعت أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما... موضوع نهاية الديموقراطية، تناولته دراسات وأبحاث كثيرة، ويمكن اعتبار أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 حافزاً دفع العديد من الباحثين إلى إعادة طرح موضوع الديموقراطية في بنائها التقليدي من زاوية المساءلة النقدية، خصوصاً في ضوء الممارسات التي أقدمت عليها دول ديموقراطية عدة على شاكلة الولايات المتحدة الأميركية لمواجهة ظاهرة الإرهاب، وذلك بإصدار قوانين واتخاذ إجراءات مشدّدة اقتربت من حالة الطوارئ ونظام الأحكام العرفية وربما حالة الحرب على المستويين الداخلي والخارجي، وكل ذلك تحت عنوان "مكافحة الإرهاب" في حملة دولية خصوصاً بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1373 في 28 أيلول (سبتمبر) 2001، وهو ما أدى إلى تعريض العدالة إلى نقص فادح وتجاوز خطير، لا سيما تصدّع الحق في المحاكمة العادلة.

وكان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش قد أجاز في قرار سابق له إجراء محاكمات عسكرية سرّية، وضمن قواعد خاصة، وقراراتها غير قابلة للاستئناف، وهو ما فسّره بعض القانونيين الأميركيين بأنه تجاوز لسلطة الجهاز القضائي، وكذلك ضد قواعد القانون الدولي والمعايير الدولية بشأن المحاكمة العادلة. وما جرى في غوانتانامو وأبو غريب والسجون السرية الطائرة التي تحدث عنها الإعلام طويلاً، إنما يثير الكثير من علامات الشك حول الديموقراطية "المفقودة"!

لقد اعتبر كثيرون أن هذه الإجراءات تعد انقلاباً تقوم به السلطة التنفيذية على الدستور الأميركي، كما ذهب إلى ذلك البروفسور بويل Boyel الذي قال إنها تتجاوز اتفاقات جنيف لعام 1949، لا سيما الاتفاقية الثالثة والرابعة، وفي الفترة نفسها شرعت الإدارة الأميركية بمحاكمات اعتماداً على أدلة سرية، وهو ما يعني إخلالاً واضحاً بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة.
والاتجاه نفسه، وإن كان بدرجة أقل، عرفته بريطانيا بعد العمليات الإرهابية التي استهدفت لندن، وهو ما يمكننا من القول إن عدداً من قيم الديموقراطية تم تجاوزها بدعوى محاربة الإرهاب، وهو ما يعني بمفهوم المخالفة، أن هذه القيم الديموقراطية عجزت عن مواجهة أساليب الإرهابيين التي نجحت في استثمار مجال الحريات، إلى أن نفد صبر الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للدول التي عجزت موضوعياً عن التوفيق بين إعمال القوانين المنفتحة، وفي الوقت نفسه حماية المجتمع وإحباط المشاريع الإرهابية، وهذا أمر يهدد استقلال الدول ووحدتها.

التحدي الثاني الذي يواجه مسألة الديموقراطية، هو التحدي الاقتصادي... حيث صارت المؤسسات والدول رهينة للبورصات والمصارف والشركات العابرة للقارات واللوبيات الاقتصادية، وتحوّلت العملية السياسية والانتخابية إلى دورة بليدة لا تؤثر في صناعة السياسات العمومية، ولا تجرؤ المؤسسات المنبثقة عنها على مخالفة التوجهات الكبرى لاقتصاد كوكبي، يعيد إلى الخلف مبادئ ومصالح الدولة الوطنية القطرية، لفائدة هويات هجينة تصنعها شركات الاتصال العالمية وشبكات التواصل الاجتماعي وعبرها مؤسسات صناعة الرأي العام، وأضحت تلك الهويات والمعلومات المرتبطة بها سلعة للتسويق، ونجحت مؤسسات الاتصال في صناعة وجوه سياسية وتقديمها لشعوبها على أنها البديل الذي لا محيد عنه، في حين أنها لا تشكل سوى وجوه جديدة لخدمة مصالح المؤسسات المالية الكبرى ورعاية مصالحها وامتداداً صريحاً لأزمات تلك الدول والشعوب.

إن استمرار الشك في الاختيار الديموقراطي، واستمرار الإصرار على اختزال الديموقراطية في مجرد عملية تصويت "حر" في انتخابات دورية، واستمرار هيمنة الشركات الكبرى على القرارات الاستراتيجية والاختيارات التنموية للبلدان في حدودها الوطنية، فتح العالم لسطوة الخطابات الشعبوية العدمية التي تقدم أجوبة سهلة لكثير من القضايا والأزمات العميقة، وهي خطابات سوف نعاني منها نحن في البلدان المتخلفة بصفة أشد، وهو ما أصبح اليوم ظاهراً في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث تطرح في وجهنا كل القضايا دفعة واحدة. فنحن مطالبون بالنجاح الاقتصادي لتحقيق السلم الاجتماعي، وفي الوقت نفسه مطالبون ببناء مؤسسات ديموقراطية عبر آلية الانتخابات، والجميع يعلم أن الانتخابات النزيهة والشفافة ليست بالضرورة ما سيصنع فوراً الرخاء الاقتصادي، ما دامت المسألة الاقتصادية تخضع لحسابات ورهانات تتجاوز قدراتنا كدول وشعوب.

السؤال اليوم هو كيف نطور الديموقراطية كي تتحقق كحقيقة اجتماعية، وليس مجرد نصوص قانونية تؤطر الحرية والتنافس السلمي على السلطة كفرضيات... وفي الوقت نفسه نحقق النجاحات الاقتصادية التي تضمن الكرامة وتعيد الاعتبار للدولة والمؤسسات ومن خلالها للفرد كعنصر فاعل في المجتمع، وأساساً كيف يستطيع المجتمع أن يتخلص من الخطابات العدمية أو الحالمة التي لا تملك أي جواب على الاشكالات التي أدمنت توصيفها وتشخيصها، وتعتقد أن سياسة العلاقات العامة والتركيز على الحلول التقنية، كفيلان بتعويض غياب الرؤية السياسية والمشروع المجتمعي المؤسس على أفكار كبرى، وليس مجرد جمل إنشائية عابرة...