وصل الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض في زيارة لا تعكس الدور المتنامي للمملكة العربيّة السعوديّة فحسب، بل تعكس أيضا أهمّية دول الخليج الست التي يضمّها مجلس التعاون والخيار المستقلّ لهذه الدول. أثناء زيارة الرئيس الصيني للمملكة، ستنعقد ثلاث قمم. قمّة سعوديّة يلتقي فيها شي الملك سلمان ووليّ العهد محمّد بن سلمان، وقمة خليجية – صينيّة وقمة عربيّة – صينيّة.

لم تتأخر الإدارة الأميركيّة في إظهار مشاعرها الحقيقية تجاه الزيارة. فمع وصول الرئيس الصيني إلى العاصمة السعوديّة، ردّ البيت الأبيض عبر الإشارة إلى أن محاولة الصين توسيع نطاق نفوذها في العالم “لا تتلاءم” مع قواعد النظام الدولي. اعتبر الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي أنّ “السعودية لا تزال حليفا مهما للولايات المتحدة”، لكنه أصدر تحذيرا بشأن الصين بقوله “نحن مدركون للنفوذ الذي تحاول الصين توسيعه حول العالم. الشرق الأوسط هو بالتأكيد من بين هذه المناطق حيث يرغبون في تعميق مستوى نفوذهم”. وتابع “نعتقد أن العديد من الأمور التي يسعون إليها، وطريقة سعيهم إليها، لا تتلاءم مع الحفاظ على النظام الدولي الذي تحكمه قواعد” محددة.

ليس سرّا أن قرار تحالف “أوبك بلاس” بقيادة السعودية خفض الإنتاج في مسعى لرفع أسعار النفط أثار توترات مع الولايات المتحدة، إذ رأت إدارة جو بايدن أن الخطوة كانت ستضر بحزبه الديمقراطي في انتخابات منتصف الولاية الرئاسية التي جرت في تشرين الثاني – نوفمبر الماضي.

أوضح الناطق باسم المجلس القومي الأميركي في هذا المجال “نعم، غداة قرار أوبك بلاس قبل عدة أشهر، نعيد النظر في العلاقة الثنائية لنتأكد من أنها تناسب على أفضل وجه المصالح القومية الأميركية. العمل جار (في هذا الصدد)”.

يصعب أن تؤثر مواقف الإدارة الأميركيّة لا على السعوديّة وعلى الدول الأخرى في مجلس التعاون. يعود ذلك إلى أن ليس لدى الإدارة الأميركية من دروس تعطيها إلى أي كان وذلك على الرغم من التغييرات التي حصلت في العالم والتي تصبّ في مصلحتها.

قبل كلّ شيء، لا مفرّ من الاعتراف بأنّ وضع إدارة بايدن صار أفضل داخليا في ضوء نتائج الانتخابات النصفية. بات ثابتا أنّ الديمقراطيين حافظوا على الأكثرية في مجلس الشيوخ. لديهم 51 صوتا في مقابل 49 للجمهوريين. الأهمّ من ذلك كلّه، أن الحسابات الخاطئة لفلاديمير بوتين في أوكرانيا صبّت في مصلحة الولايات المتحدة. كشفت الحرب الأوكرانيّة أنّ روسيا ليست سوى نمر من ورق وأنّها ليست قادرة على خوض حروب طويلة في ظلّ اقتصاد منهك يعتمد على النفط والغاز. كان هذا الاقتصاد الروسي يعتمد أيضا على تصدير السلاح. لكن المغامرة الأوكرانيّة كشفت مستوى هذا السلاح مقارنة بالسلاح الغربي، خصوصا السلاح الأميركي المتفوق في كلّ المجالات. ظهر ذلك واضحا بعد سلسلة الهزائم التي ألحقها الأوكرانيون بجيش روسي ليس معنيا بأوهام بوتين وتطلعه إلى إعادة الحياة إلى الاتحاد السوفياتي.

الصين نفسها ليست بعيدة عن استعادة إدارة بايدن المبادرة عالميا. اكتشف شي جين بينغ، الذي أعيد انتخابه حديثا رئيسا للمرة الثالثة، أن ليس في استطاعته الذهاب بعيدا في مجاراة بوتين. أخذ مسافة منه، خصوصا في ظلّ الصعوبات الاقتصاديّة التي تواجه بلده والتي كان آخر تعبير عنها اضطراره إلى التراجع عن الإجراءات الصارمة في شأن جائحة كوفيد – 19. اضطرت الحكومة الصينية قبل ذلك إلى تدمير عشرات الآلاف من الشقق المبنية حديثا قرب المدن الصناعية بغية تلافي انهيار سوق العقار في البلد.

لا شكّ أن الصين قوة اقتصاديّة عظمى. إنها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لكن مما لا شكّ فيه أيضا أنّها تواجه صعوبات كبيرة. هذه الصعوبات تحرمها من لعب أدوار تفوق حجمها من نوع الاستثمار في الاقتصاد الإيراني والسعي إلى ابتزاز الدول العربيّة في الخليج من خلال التقرب من “الجمهوريّة الإسلاميّة” وتوقيع اتفاق إستراتيجي معها.

الثابت في المنطقة هو الدول العربيّة الخليجيّة التي عرفت كيف تتعاطى مع الولايات المتحدة من دون أن تجد مشكلة في التعاون مع الصين. تعرف هذه الدول معرفة جيدة أنّ الإدارة الأميركية ليست من النوع الذي تستطيع الاعتماد عليه في كلّ حين. هذا ما ظهر من خلال الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان ومن الميوعة في التعاطي مع إيران ومع وجودها في جزء من اليمن، أي في شبه الجزيرة العربيّة. حولت إيران شمال اليمن إلى قاعدة صواريخ ومسيّرات، فيما همّ واشنطن إيجاد طريقة لاسترضاء الحوثيين!

جاء الرئيس الصيني إلى الرياض في ظلّ معطيات عالميّة مختلفة ناجمة عن عوامل عدة في مقدّمها الحرب الأوكرانيّة. في طليعة هذه المعطيات أنّ الدول العربيّة الخليجيّة باتت تعرف تماما أين مكامن الضعف في الموقف الأميركي وأين مكامن القوّة فيه. استطاعت المملكة العربيّة السعودية لعب أوراقها بشكل جيد، خصوصا في مجال المحافظة على سعر مقبول ومعقول لبرميل النفط. أثبتت الأيّام أن “أوبك بلاس” كانت على حق في خفض الإنتاج وذلك لمنع انهيار سعر برميل النفط.

لا يستطيع عاقل تجاهل أهمّية الدور الأميركي في العالم، لكنّه ليس في استطاعة أميركا نفسها تجاهل أنّ دول الخليج العربيّة لم تعد مجرّد دول تابعة وأن هذه الدول تمتلك مصالح خاصة بها. تتفق هذه المصالح في أماكن كثيرة مع المصالح الأميركيّة، لكنها تختلف أحيانا معها. تختلف، على سبيل المثال وليس الحصر، في ما يتعلّق بالصين. ثمة مجالات للتكامل بين دول الخليج والصين، خصوصا في مجال الطاقة. ليس ما يدعو إلى انحياز هذه الدول للموقف الأميركي الذي يمكنه في أي لحظة أن يتغيّر جذريا.

الرئيس الصيني في السعوديّة في ظلّ تحفظ أميركي. يصلح هذا العنوان لزيارة تكشف أول ما تكشف أنّ لدول الخليج خيارات خاصة بها ولديها مصالحها التي لا تتفق بالضرورة مع المصالح الأميركيّة.