إذا افترضنا أن الحداثة قد بدأت في القرن الثامن عشر كما أرخ لها المؤرخون بما أسموه المرحلة الأولى من العولمة إذ افترضوا بل أكدوا أن المرحلة الثانية تبدأ من 1492 حتى 1800 حيث ساد الأولى استخدام القوة في السيطرة من قبل المستعمر والثانية ساد باستخدام السيطرة على الأسواق لإنعاش الدول اقتصادياً أما الثالثة فقد بدأت من عام 2000 وذلك لأنها كما يقول (توماس فريدمان): "تبرز فيها أهمية الفرد والذي يستطيع في العالم المسطح تجاوز كافة أنوع المعوقات والعراقيل والتواصل مع أي شخص أو مكان في العالم".

فالمتأمل في هذا التقسيم الزمني، يحتوي على تلك الحقبة التي ولدت فيها الحداثة بأفكارها وتأثيرها على أدب وفنون الشعوب وبذلك نجد أن الحداثة والحداثة الحديثة والعولمة تعمل على ذلك التغيير الدائب من مفهوم السيطرة وإن تغيرت أشكالها وتعددت قضاياها، إلا أن الإنسان هو الهدف وبالأخص تلك الكرة الرابضة بين أذنيه. ثم يقول: "كان الأوربيون والأميركيون هم من قادوا وسيطروا على حركة العولمة في طوريها الأول والثاني، فإن الطور الثالث منفتح للجميع وعلى الجميع من كافة أطياف وألوان قوس قزح".

ولذلك كان لزاماً علينا الاستعداد لتلك الألوان السبعة التي سنحدق فيها كثيراً، فإذا ما ركزنا على مفهوم الزمان والمكان في هذين التيارين "الحداثة الحديثة وما بعد الحداثة والعولمة" فإننا نجد أنه لم يكن هناك زمان مختلف عن المكان فالزمان والمكان يتم تذويبهما في ما بعد الحداثة، إذ يكون المكان البعيد قريباً ويكون الزمان مفتوحاً كما أن ثقافة الغائب باتت حاضرة لدينا، وهي نظرية دريدا "الاختلاف"، فالحاضر غائب والغائب حاضر، فالعالم كله نائم والعالم كله يقظ في وقت واحد بما أن العالم أصبح واحداً، وذلك يرجع إلى تذويب الزمان والمكان. إلا أن هذا التذويب في "الزمكان" يعمل على ما نراه من صراع.

هذا التذويب جعل جوهر العولمة أن يصبح الفرد واحداً بذاته فى بوتقة العالم بعد أن كان ينتمي إلى تحالفات وقبائل ومجتمعات محددة وهذا النوع من الإحساس بالوحدة قد يخلق لدينا نماذج عديدة من الإحساس بالنزعة الفردية رغم ذلك التماس الشديد بالعالم وهو ما تفترضه تلك النزعة الكونية فيما سُمِي بالعالم الجديد.

فـ"الثقافة الوطنية تتميز بالتجانس على الأقل عبر الاشتراك فى مجموعة الدوال السلوكية والرمزية وكذلك الاشتراك في لغة واحدة، أما ثقافة العولمة فإنها الثقافة التي تتجاوز هذه الثقافة الوطنية متخطية حدود الدول".

ونحن لا ندعو إلى الانغلاق على الذات والتراث وإنما ندعو إلى التماس المعرفي مع الذات والهوية ثم التماس العالمي بوعي وإدراك للمفاهيم الماورائية الغربية وبذلك نكون قد عملنا على ملء الفجوة، ومن هنا يكون الحفاظ على الإرث والتاريخ، فثقافة الهوية أصبحت مطلوبة الرأس، فالتفكيكية تدعو إلى هدم التراث وإعادة بنائه بشكل جديد وتدعو إلى إزاحة أي سلطة كانت.. يقول (فيزرستون): "أنها تحقق قدراً من الاستقلال على المستوى العالمى. أي أنها -أي الثقافة- تصبح آليات فوق قومية.. وتخلق عالماً ثقافياً مستقلاً بذاته هو ثقافة العولمة".

ويمكن أن نطلق على هذه الثقافة، الثقافة المصنوعة والموجهة بعد أن كانت فى الماضي القريب ثقافة تلقائية محلية تخدم سلوك الفرد والجماعة إلا أنها أضحت ثقافة نازحة لا تخدم إلا النزعات والأفكار العالمية حبلى بذوبان الشخصية تحمل رأساً كونياً يتم صناعتها، ومن هنا يتلاشى مفهوم الهوية لأن ثقافة العولمة لا تاريخ لها ولا هوية لها إنها ثقافة الفضاء الزماني والمكاني ذلك الفضاء العنقودي ذو السلاسل المتفجرة عن عناقيد أخرى في دوائر عالمية، مبهمة إنها ثقافة الجنين مفقود النسب إذ تلقى بالقديم وتبحث عن جديد تاركة وراء ظهرها القديم.

ومن هنا يتغير مفهوم الوحدة الاجتماعية حيث إنها مجموعة من الأفراد يجتمعون فى بعض الخصائص واللغة والملامح ويعيشون على أرض واحدة، فأصبح الفرد هنا هو الوحدة الاجتماعية القائمة بذاتها عبر دهاليز الاتصال الكوني وهو أثر سلبي من آثار العولمة حيث يهيئ الفرد إلى الانخراط في تناثرات فردية قد يرزحون جميعهم تحت مصدر تحكم واحد وهو الغرض الرئيسي للعولمة (هيمنة القطب الواحد) فهي كما يقول أحمد أبوزيد: "أن يصبح الناس عبيداً لثقافة لا يصنعونها بأنفسهم بل ثقافة مفروضة عليهم يصنعها لهم الآخرون".

فبالرغم من أن بزوغ الحداثة يرجع إلى القرن السادس عشر إلا أنها لم تكن حداثة إنتاج وفكر فحسب بل كانت ثورة استهلاكية.

إلا أن ثقافة حداثة العولمة ذهبت إلى أبعد من ذلك كثيراً، حيث النزوح إلى الفضاء الكوني وسيطرة القطب الواحد بهدف مركزية السلطة الواقعية، ولم يكن ذلك النزوح نحو المثالية التي نجدها عند أفلاطون، إذ إن عالم المثل لدى أفلاطون عالم محسوس وغير ملموس، بل العولمة بفضاءاتها هي من عالم محسوس إلى عالم محسوس أيضاً. وهذا ما ينقلنا بدوره إلى النظرية التفكيكية، ومما يؤجج نار هذا الاتجاه هو التفاوت الطبقي الذي تزداد هوته وليس التحلل البنائي الاجتماعي في علاقته بالدولة فحسب بل إلى مستوى آخر وهو البناء الطبقي في المجتمع".

من خلال تأثير سيكولوجى يؤثر في الجماعة إذا فرغ من محتواه الجماعي، وهذا التفكيك الجماعي الذي لا يخضع لأي سلطة عليه. هذه النزعة الفردية أو ما أسميناها بثقافة النزوح نحو عالم أشمل وأكبر عبر بوتقة الانفتاح الإعلامي والتكنولوجي، ما ينتج عنه ذلك الفك المقصود بين عرى الجماعة والانتماءات المجتمعية وطمس الهوية لما يحققه الدافع العولمي، وهذا هو جوهر الصراع العالمي.

وبين هذه التقلبات السريعة بين التنظير والتطبيق نجد ظهور ملامح للنظرية الرابعة للفيلسوف الروسي ألكسندر ديوغين وخاصة فيما أطلق عليه (الأوراسية) في محاولة لاستعادة التاريخ وفك عرى العولمة والذي دعت التفكيكية إلى هدمه فأصبح الصراع العالمي في الوقت الراهن بين العولمة وبين نظرية الجيوسياسية لديوغن!