زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون إلى الولايات المتحدة، الحليف الحيوي، حسب وصف الرئيس الأميركي جو بايدن، كانت «زيارة دولة»، وهي الأعلى في الأعراف الدبلوماسية فيما يتعلق بالزيارات الرئاسية.

الأهمية أيضاً تكمن في كونها الزيارة الأولى من هذا المستوى منذ تولي الرئيس الأميركي مسؤولياته. وهذا بحد ذاته يعدّ مؤشراً مهماً على طبيعة العلاقات الأميركية - الفرنسية. ففي إطار تاريخ العلاقات التقليدية بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية كان من غير المفاجئ لو أن الزيارة الأولى من هذا النوع كانت بريطانية أو حتى ألمانية. لكن الخاصية الجديدة التي أخذت تطبع العلاقات بين واشنطن وباريس من حيث التعاون القائم والواعد بين الطرفين، والجديد في درجاته، انعكست في نوع هذه الزيارة، مع التذكير الفرنسي أننا أصدقاء وحلفاء وليس منحازين كما كان يقول جاك شيراك، أو حلفاء لا تابعون كما كان يردد ديغول. ولا بد من التذكير أنها الزيارة الثانية (زيارة دولة) للرئيس ماكرون إلى الولايات المتحدة. وكانت الزيارة الأولى للقاء الرئيس ترمب في مطلع تولي ماكرون الرئاسة في أبريل (نيسان) 2018. ولكن بالطبع لم تكن العلاقات الأميركية - الفرنسية في الوضع التعاوني والتنسيقي التي هي عليه الآن.
الدُوران الفرنسيان اللذان قد يظهران للبعض أنهما متناقضان فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية - الروسية: دور الداعم بقوة لأوكرانيا من جهة والوسيط الناشط منذ 2014 والمستمر بوساطته، في زمن الحرب لتفعيل التسوية التفاوضية لوقف القتال من جهة أخرى أعطيا زخماً إضافياً للعلاقات الأميركية - الفرنسية. فرنسا تتمسك بإبقاء باب التفاوض مفتوحاً على خلاف واشنطن التي تطرح شروطاً للتفاوض، هنالك حاجة إلى التفاوض حولها لجعلها واقعية ومقبولة. عنصر آخر أعطى دفعاً للعلاقات الفرنسية - الأميركية تمثل في عودة أوروبا إلى احتلال موقع مركزي في المصالح الاستراتيجية الأميركية كما نرى من ضمن أمور أخرى، عبر إعادة إحياء دور الحلف الأطلسي على الصعيدين الأوروبي والعالمي.
طُوي الخلاف، في القمة، حول ما حصل قبل 14 شهراً واعتبرته فرنسا طعنة في الظهر حين ألغت أستراليا عقد شراء اثنتي عشر غواصة من فرنسا واستبدلت ذلك بشراء غواصات أميركية بعد أن تم إنشاء تحالف عسكري ثلاثي أميركي - بريطاني - أسترالي لمواجهة الصين في منطقة المحيط الهادي.
لكن إحدى النقاط الخلافية الرئيسية الأميركية - الأوروبية التي كانت على جدول القمة في واشنطن تعلقت بالشأن الاقتصادي أو بكيفية تعاطي واشنطن مع التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية - الأوكرانية. لقد تم اعتماد قانون خفض التضخم عبر توفير مساعدات مالية للصناعة الأميركية بحدود 367 مليار دولار لدعم هذا القطاع. ولكنه في حقيقة الأمر يؤذي التنافس الحر ويضرّ بشكل كبير بالاقتصاد الصناعي في أوروبا. وقد طلبت فرنسا من الولايات المتحدة معاملة الاقتصادات الأوروبية ولو لدرجة معينة، أسوة بالمعاملة التي خصصت لكل من كندا والمكسيك؛ بغية حماية الصناعة في البلدين الجارين من أن تدفعا الثمن غالياً للسياسة الحمائية الأميركية. وبالطبع لم يكن الرد إيجابياً تجاه هذا الأمر، ولكن واشنطن وعدت بدراسة إمكانية العمل على تخفيف التداعيات الاقتصادية بانعكاساتها المختلفة على الحلفاء الأوروبيين، الناتجة من هذا القانون.
كما أن القمة تناولت أيضاً من المنظور الفرنسي أهمية تخفيض كلفة الغاز الأميركي المصدر إلى «الحلفاء» الأوروبيين، وبالطبع دون أي نتيجة في هذا المجال. بالمقابل، أبدت واشنطن قلقها المتكرر من تزايد اعتماد الاقتصاد الأوروبي على التجارة مع الصين الشعبية، دون أن يعني ذلك أن أوروبا قادرة أو راغبة في تخفيض مستوى وحجم هذا التعاون المفيد لطرفيه.
باختصار، يمكن القول، إن من هم حلفاء في لعبة الجغرافيا السياسية، كما تدل على ذلك الأزمة الأوكرانية هم متنافسون في لعبة الجغرافيا الاقتصادية، كما يدل على ذلك حجم التعاون والتبادل الاقتصادي الأوروبي - الصيني المتزايد. إنها إحدى أهم سمات النظام العالمي اليوم.
خلاصة القول، أن الولايات المتحدة وفرنسا تشهد علاقاتهما قفزة نوعية عبر تعزيز التعاون العابر للأطلسي، الأميركي - الأوروبي، والذي شهد تراجعاً في الماضي بسبب المتغيرات الدولية بعد الحرب الباردة، محفزه الرئيسي مخاطر الدور الروسي كما تدل على ذلك الحرب الروسية - الأوكرانية. ولكن فرنسا أيضاً ماً زالت تدفع على صعيد آخر، على بلورة مفهوم استقلالي لدرجة معينة للأمن الأوروبي، الاتحاد الأوروبي أساساً وعلاقاته بمحيطه الأوروبي المباشر. وتعدّ فرنسا أن ذلك يجب أن يشمل ضمانات لروسيا؛ كونها، مستقبلاً جزءاً من منظومة الأمن التي يجب بلورتها في القارة القديمة.