سنة 2023 لا بدّ أن تكون سنة التسوية بعدما كانت سنة 2022 سنة الحرب في أوكرانيا، وهي ليست كأي حرب بل إنها منذ لحظة بدايتها أحدثت انقساماتٍ دوليةً على مستوى غير مسبوق، كما أثارت مخاوف وما تزال من إمكان تحوّلها حرباً عالمية. ففي موازاة جهود مبذولة بصمت وبعيداً عن الأضواء بهدف إنهاء الحرب، تبقى هناك أدوار معاكسة. وأيّاً تكن التسوية المرتقبة فإنها ستتضمّن قواعدَ أولية ومؤشّراتٍ لتغييرٍ في النظام الدولي، ذلك أن إنهاء الحرب لا يعني السلام.
لن يكون هذا التغيير تلقائياً ولا سلساً، وقد لا تكفي حرب أوكرانيا وحدها لفرضه، ويمكن توقّع أحداث أخرى رئيسية أو ثانوية تصبّ في الاتجاه الذي شقّته روسيا. لم يكن سهلاً على أحد أن يتقبّل في 2022 أن يكون العالَم بصدد أزمة غذاء أو في أزمة طاقة، لكن هذا هو الواقع مع الحروب التي تشلّ سلاسل الإمداد أو تغلق أنابيب النفط والغاز.
ومع أن دولاً كثيرةً أظهرت قابلية للتأقلم مع الوضع المستجد، وبأساليب مختلفة، وبمساعدات من دول عديدة أبرزها دول الخليج العربي، إلا أن المنظمات الأممية تواصل التحذيرَ من النقص في الإمدادات، متوقِّعةً أن تَظهر آثارُ هذه الأزمة أكثر خلال السنة المقبلة. وخلُص أحدثُ تقرير مشترك لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) وبرنامج الأغذية العالمي إلى أن أزمة الغذاء العالمية تضيّق الخناق على 19 «بؤرة جوع ساخنة»، وأن عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي سيرتفع سريعاً.
ويُعزى ذلك إلى «تزايد الصراعات والظواهر المناخية القاسية وعدم الاستقرار الاقتصادي، الذي تفاقم أيضاً نتيجةَ الجائحة والآثار المتتالية للأزمة في أوكرانيا». كان من الطبيعي أن يتسبّب الصراعُ الدولي الحادُّ حول أوكرانيا بضغوط استقطابية على سائر الدول، لكن برز خلال هذه الأزمة توجّهٌ مستقلٌّ تمثّل خصوصاً بقادتي السعودية والإمارات، إذ رفضتا الانحياز إلى أيٍ من القوى الدولية الكبرى، مع الإصرار على علاقات تعاون معها جميعاً، ومع إخضاع كل العقود والاتفاقات لمعيار المصلحة الوطنية أولاً.
ومن خلال قمة جدة مع الرئيس الأميركي، ثم قمة الرياض مع الرئيس الصيني، كذلك من خلال الشركة الأميركية الإماراتية للاستثمار في الطاقة النظيفة وشراكة استراتيجية باتت راسخة بين الصين والإمارات.. يمكن القول إن منطقةَ الخليج العربي أسّست لنموذج جديد في تعاملاتها، وهو ما تأكَّد بقرار «أوبك+» (خفض الإنتاج لتصويب الأسعار) الذي أيّدته دولُ المنظمة كافةً، وقد بيّنت الوقائعُ لاحقاً صوابَه وعدم انبثاقه من أهداف سياسية.
وفي الوقت الذي يبحث العالَمُ عن موارد لمختلف الأنشطة والاقتصادات، ما تزال أفريقيا زاخرةً بالثروات المهملة. ولعل أحد أهم دروس العام 2022 أنه ذهب من النقيض إلى النقيض، فبقدر ما كان عام الذكاء الاصطناعي بامتياز، إذ ظهر في تنظيم «مونديال 2022» وفي الأسلحة المستخدمة في أوكرانيا وفي مجالات عديدة أخرى، بقدر ما سلّط مزيداً من الأضواء مجدداً على القارة السمراء سواء لوجود ثروات نفطية فيها لم تُكتَشف بعدُ أو لأن فيها اقتصادات نشطة متزايدة أو خصوصاً لأن فيها أوسع مساحات زراعية غير مستغلة.
ليس هناك خبير في التنمية عمل في أفريقيا إلا وأدرك أهميتَها، والواقع أن الدول كانت مدركةً عموماً للفرص المتاحة، لكن التنافس الأميركي الصيني الروسي قلّص المجال أمام الاستثمارات الدولية فيما هو ماضٍ في إضعاف النفوذين الفرنسي والبريطاني. وهذا التنافس الثلاثي بات مرشحاً للتصاعد.