لا يزال مصطلح حق حرية التعبير، يشكل محوراً شائكاً لدى المفكرين والمشتغلين في منظمات حقوق الإنسان، نظراً لتباين وجهات النظر واختلاف أساليب التعبير، والجهات أو الأفراد التي تمتلك الحق في التعبير أو إبداء الرأي، ويزداد الأمر صعوبة مع ازدهار وسائل التواصل الاجتماعي وتعدّدها؛ بحيث سمحت للمستخدمين بفضاءات أوسع لا تطالها الأجهزة الرسمية، لا سيّما مع اللجوء إلى الأسماء المستعارة.

ويعد حق حرية التعبير وجهة نظر، وليس قانوناً على الرغم من وروده في مبادئ الأمم المتحدة والكثير من دساتير الدول. وجهة نظر واجتهاد فكري واجتماعي وسياسي في الميدان العملي والتطبيقي، ولو كان قانوناً لما عاقبت على سوء استخدامه قوانين دول كثيرة، ما يدل على أن الأمر استنسابي ومشروط، ويخضع لمعايير تتعلق بالأخلاق والذائقة المجتمعية والحريات الفردية والعامة.

وهناك اختلاف في أساليب حرية التعبير أو طرق إبداء الرأي، التي تتنوع بتنوّع ثقافات المجتمعات وماهية الممنوعات وأشكال العيب وأطياف ما يمس الذوق العام، فالمفردات المسموح تداولها في المجتمع الفرنسي أو النرويجي أو الغربي بشكل عام، غير مسموح بها في المجتمعات المحافظة كالمجتمعات الشرقية، وهي مفردات ذات صلة بالأدب وقلة الأدب، وهما مصطلحان نسبيان أيضاً قياساً للمجتمعات.

وهناك جدل أيضاً عن الجهة، إن كانت أفراداً أو مؤسسات أو أحزاباً، التي يحق لها التعبير عن الرأي، ولا شك أن اللغة المؤسسية الحزبية تختلف عن لغة الأفراد، لأن البيان يُكتب بروية وبعد مراجعة، أما الأفراد، وخاصة في التجمعات العامة والتظاهرات، فتتسم شعاراتهم وآراؤهم بالانفلات والانفعال. وفي الحالتين لا يحاسب القانون، الطرفين في ظروف محدّدة، إلا إذا مسّ بالأمن القومي، وتجاوز حدود الأخلاق واللباقة. وقديماً، وفي الحضارتين الرومانية والإغريقية، كانت عملية إبداء الرأي مقتصرة على المثقفين والعلماء والمفكرين والمستشارين، ولا يستطيع العامة المشاركة أو إبداء الرأي.

التعبير عن الرأي في الدول المتقدمة، لا سيما في التظاهرات الجماهيرية، كان في بعض الأحيان حاداً وقاسياً ومصحوباً بمفردات نابية، وقد انتقل هذا الأمر إلى الدول العربية في السنوات القليلة الماضية، خاصة مع اندلاع ما سُمّي بالربيع العربي؛ إذ هاج الناس وماجوا وانفلتوا واستخدموا تعابير خارجة عن المألوف، وأكثر انفلات رأيناه وسمعناه في التظاهرات في لبنان بعد 17 أكتوبر 2019 حين استُخدمت مفردات مستهجنة، ولم يعاقب القانون أحداً.

وتتضمن مقالات الرأي أيضاً استخدام عدد من الألفاظ، ولكن أخف من تلك التي يستخدمها العامة في الشوارع، وقد تكون أكثر استهجاناً، كون الكلمة المكتوبة تختلف عن تلك التي يطيرها الهواء، لهذا يتعرض أصحابها للمساءلة في كثير من الأحيان، بسبب وجود دليل قاطع يمكن استخدامه قانونياً.

التعبير عن الرأي هو الإفصاح عن وجهة نظر بشأن القضايا العامة، ويمكن ممارسة هذا الحق بلا حدود إذا ما استُخدمت اللغة المهذبة، التي تقبل الاختلاف وتحتفظ بالرد، إضافة إلى التحلّي بالموضوعية وعدم شخصنة الردود، واللجوء إلى المنهج العلمي في تقديم البراهين. ومن الطبيعي ألا يتمكن أي شخص كان من اتباع هذا الأسلوب إلا إذا كان حائزاً قسطاً وافراً من التعليم والثقافة، وفي هذه الحال لا يملك الآخر إلا تقبّل الرأي برحابة صدر.

من هذا المنطلق أرى أن تقوم منظمات حقوق الإنسان بتعديل حق حرية التعبير وليس تقييده، والقيام بحملات توعية في هذا الشأن، وتأكيد أن إبداء الرأي هو وسيلة للتلاقي وليس للتفرقة، والتفاعل وليس التقاتل، وتحقيق الانسجام وليس إشعال الحروب، ومشاركة المعارف وليس احتكارها، يضاف إلى ذلك تفعيل قانون الجرائم الإلكترونية الخاص بالقدح والذم والتطاول الشخصي على الآخرين، وأرى أن يدخل هذا الأمر في المناهج الدراسية، وتدريب الطلاب على الطرائق الحضارية، لإبداء الرأي والنقد البناء.

حق حرية التعبير مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأفراد والمؤسسات والأسر، واستخدامها بالطريقة المثلى سيؤدي إلى حل الكثير من المشاكل، ويسهم في تحقيق السلم المجتمعي.