بعض الأسئلة تدور حول مساهمة المملكة المعاصرة في بناء مجتمع يشجع العلوم، ويسعى إلى خلق جيل من العلماء الذين يساهمون في تغيير البشرية إلى الأفضل، أقصد بالعلوم هنا: العلوم البحتة أو ما يطلق عليها العلوم الأساسية، ومناسبة هذا السؤال هو زيارة لجنة التحكيم لجائزة اليونسكو عبدالله الفوزان للرياض نهاية الأسبوع الفائت، والجائزة كما ذكرنا عندما أطلقت في شهر أكتوبر عام 2021م هي أول جائزة سعودية في اليونسكو، ولا تزال الجائزة الوحيدة للمملكة في منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، بل إنها لا تزال الجائزة الدولية الوحيدة في "ستم" (العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات)، ومن الموضوعات التي تخوض فيها تشكيل مفاصل التنمية التي تحتاجها البشرية في الوقت المعاصر. اللقاء الذي نظمته الجائزة كان بعنوان "عين على المستقبل"، وركز على مقابلة المحكمين، وهم علماء؛ أحدهم حصل على جائزة نوبل في الفيزياء الفلكية وهو الدكتور "ديديه كيلوز"، بالعلماء السعوديين الشباب، فصناعة المثال الذي يحتذي في مجالات العلوم يتطلب أن يكون القدوة قريباً من المُتعلم، وهذا أحد أهداف الجائزة على المستوى الوطني، حتى وإن كانت الجائزة عالمية وتغطي مناطق اليونسكو الخمسة، وتقدم جوائز لخمسة فائزين من هذه المناطق.
أعود للسؤال الذي طرحته في البداية، عن إسهام المملكة في بناء مجتمع يشجع العلوم، لعلي أبدأ بقول: إن معالي وزير التعليم شارك في اللقاء وكان راعياً وداعماً له، وحضر اللقاء مؤسس الجائزة الأستاذ عبدالله الفوزان، كما أن مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع (موهبة) كانت شريكة في تنظيم اللقاء الذي تم في "قبة موهبة"، إضافة إلى أن أغلب الجامعات السعودية الحكومية والخاصة شاركت بعلماء من طلاب الدراسات العليا والأساتذة في مجالات الجائزة. يجب أن أذكر هنا أنها جائزة مخصصة للعلماء الشباب (18-40 عاماً)، وبالتالي ستكون رفيقة لهؤلاء العلماء أثناء تطورهم العلمي حتى بلوغهم النضج، وهذا جزء من عقلية السعودية المعاصرة التي تفكر في البناء العقلي والعلمي المتدرج من خلال خلق مؤسسات متعددة تعنى بالعلوم. يبدو لي أن هذا مؤشر يدعونا للتفاؤل بأن المستقبل سيكون "حافلاً بالعلوم". من الناحية التاريخية العقل العربي فقد الفضول المعرفي في وقت مبكر جداً، والإرث العلمي الصاخب الذي كان يميز الحضارة العربية الإسلامية بدأ يتلاشى تدريجياً إلى أن وصل مرحلة الركود، فهل يمكن لمبادرة مثل هذه الجائزة، وهي من ضمن مجموعة كبيرة من المبادرات التي أطلقتها السعودية، أن تساهم في بعض التغيير؟ ربما يمثل خلق الحافز محركاً للصبر والمثابرة، والعلم يحتاج إلى الصبر وقبل ذلك الرؤية.
لفت نظري في لقاء العلماء الشباب الحديث عن الوجه الجديد للمملكة، عن رؤيتها التي لا تخلو من الطموح العلمي والمعرفي، فتذكرت الأحاديث التي كانت تدور في أروقة اليونسكو قبل إقرار الجائزة قبل أكثر من عام، فقد سمعت البعض يقول مستغرباً إنه لم يكن يتوقع أن تقدم المملكة على جائزة في العلوم، بل كان يتوقع أن تكون أول جائزة للسعودية في التراث أو اللغة العربية أو التاريخ. لقد صنفونا كأمة حدثت وتكونت في الماضي، ولا مكان لنا في الحاضر والمستقبل، وتأبى المملكة إلا أن تفرض وجودها في تشكيل المستقبل وتشارك العالم في صنعه، ليس بالأمنيات بل بالتخطيط والتنفيذ على أرض الواقع. في اعتقادي، كما ذكرنا حينها، أن مثل هذه الجائزة تساهم في بناء القوة العالمية الناعمة للمملكة وتعمل على تحدي الصورة النمطية التي يحاول البعض سجننا داخلها.
سألني الفائز بجائزة نوبل عن آلية تمويل البحث العلمي في المملكة، فذكرت له عدة جهات مؤثرة تشكل نواة البحث العلمي، مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية وواحة الملك سلمان وغيرهم كثير، لكنه أضاف وقال: "لا يكفي تشجيع العلماء الشباب دون وجود قنوات تمول البحث وتجهز له البنية التحتية"، ويقصد هنا المختبرات وكذلك المشروعات البحثية الوطنية التي تحدد ماذا نريد أن نكون خلال العشر سنوات المقبلة، وأي ميدان من ميادين العلم يفترض أن نعمل فيه. ويبدو أن تشجيع العلوم لا يمكن أن يتحقق بمجرد الرغبات ولا حتى بوجود قنوات تمول البحث العلمي بل يجب أن يضاف لها الهدف الذي نسعى له كدولة، كي نكون مساهمين وبارزين فيه ويخدم اقتصادنا الوطني.
لا يمكن فصل تنمية الإنسان وخلق مستقبل أفضل للبشرية دون تطور العلوم، وعلينا أن نقرر إما أن نكون من الذين يصنعون المستقبل ويغيرونه من أجل مصالحهم أو ننتظر رحمة الآخرين وما يمكن أن يقررونه بدلاً عنا. أشعر ببعض التفاؤل مع التحولات الكبيرة التي تعيشها المملكة من خلال رؤيتها 2030، وأتوقع أن مجرد العمل على تأسيس مبادرات تعنى بالعلم والبحث العلمي يعني أن هناك تحولاً في التفكير بدأ ينمو بيننا، وصار يؤثر على قراراتنا التي قد تمس المستقبل وتشكله حسب ما نتمنى ونريد.
التعليقات