الاستقلالية الفكرية والثقافية والإعلامية أن يكون لك موقفك ورأيك الموضوعي والعلمي غير المنحاز لحزب أو لجهة، وغير متأثر بمنظومة فكرية، وأن تمارس عملك بحيادية قدر الإمكان. وقد نادى كثيرون باستقلالية المثقف وعلى رأسهم المفكر والناقد الأمريكي من أصل فلسطيني، الراحل إدوارد سعيد، بحيث شدّد على أهمية عدم تبعية المثقف لأي حزب أو تنظيم حتى يتمكن من ممارسة رأيه بحرية، وأن يؤدي وظيفته الثقافية والمجتمعية النقدية بموضوعية، من دون مؤثرات خارجية، وقد حاججه كثيرون في موقفه، وقالوا باستحالة تحقيق الموضوعية المطلقة وعدم الانحياز لقضية ما، وضربوا مثالاً على ذلك بدفاعه عن القضية الفلسطينية وعن الإسلام (رغم أنه مسيحي المنشأ، لكنه آمن بالعلمانية في ما بعد لأن العلمانية حسب رأيه لا تتعارض مع الدين، لأنها تهدف إلى فصل السلطات فقط). وكان رده أنه يؤمن بالقضايا المصيرية العادلة للشعب الفلسطيني أو أي شعب يعاني من الاحتلال والقمع. وقد خاض نقاشات طويلة مع المفكرين في الولايات المتحدة الأمريكية (كونه كان يقيم ويعمل هناك).


قد تنطبق استقلالية المثقف على المثقف والمفكر، فهل تنطبق على الإعلامي؟

يبدو أن هناك صعوبة أكثر في تحقيق الاستقلالية في مجال الإعلام بأنواعه ووسائله كافة، لأن كل وسيلة إعلامية، صغُرت أو كبُرت، يتم تمويلها من طرف أشخاص أو أحزاب أو حكومات، وبالتالي فإنها تعكس بالضرورة وجهات نظرهم وسياساتهم ومواقفهم، ولا يمكنهم توظيف أشخاص لا يطبقون سياساتهم، ولا يمكنهم قبول مقالات ودراسات تتعارض معهم.


ويبدو أن الأمر لا يقتصر على وسائل الإعلام وإنما يشمل مراكز الدراسات والبحوث، التي سنجدها، بقليل من التمحيص والدراسة، تابعة لدولة أو تنظيم أو حزب أو جماعة، ويتم تطويع وتجيير دراساتها وبحوثها لتخدم الأهداف والسياسات الخاصة بهذا الحزب أو تلك الدولة. وإذا كان من السهولة فضح الإعلام الموجّه، فإن من الصعوبة بمكان كشف البحوث والدراسات إلا من قبل الاختصاصيين والباحثين أنفسهم. والقارئ هو الهدف الرئيسي، لأن جميع الوسائل الإعلامية والمراكز البحثية تسعى إلى التأثير في القارئ وتكوين رأي عام.

ومع انتشار الصحف والمجلات الإلكترونية وسهولة إصدارها وصعوبة مراقبتها والتحكم بها، صارت مسألة البحث عن الاستقلالية أو المحتوى الموجه صعبة للغاية، وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً: هل نحن أمام مرحلة مقبلة تنتفي فيها الرقابة الكليّة، وينتشر فيها الإعلام (الحر)، مع الأخذ بعين الاعتبار ضياع القارئ العادي وجعله دائماً في حيرة من أمره، بحيث لو أراد الوصول إلى حقيقة الأشياء، سيستغرق منه وقتاً غير قصير. فهل نحن في حاجة إلى وضع اتفاقيات وبنود تدعو للمصداقية؟ من جانب آخر، من الذي سيشرف على تحقيق هذه المصداقية؟ وبهذا نصل إلى مرحلة يكون الضمير الإعلامي والبحثي هو الحكم الأول والمعيار الرئيسي، فهل هذا الضمير حي، وتمارسه وسائل الإعلام؟ ألهذا السبب يمتنع كثيرون عن متابعة الأخبار؟

هناك مشكلة حقيقية، إن لم تكن أزمة، في التلقّي الإعلامي، أو في الكلمة المنشورة أو المسموعة، ويمكننا ببساطة رصد هذه الأزمة من خلال تتبّع حوارات بين مجموعة قليلة من البشر، إذ سرعان ما تذكر المعلومة ونقيضها، والموقف وعكسه، وسرعان من تنطلق الاتهامات التي قد تنسف الحوار أو الجلسة من أساسها، وقد تنتهي بمواقف سلبية تؤثر في علاقات الأشخاص بعضهم ببعض.

قد لا تنطبق الاستقلالية على الموقف الوطني، وعلى الولاء والانتماء للشخصية الوطنية، والدفاع عن سيادته، هذه ثوابت يمارسها الإنسان الصادق بأشكال مختلفة وتصب في النهاية في صالح عزة الوطن وتنميته وازدهاره، شرط ألاّ تتعدّد الانتماءات وتزدوج المعايير، الانتماء الحزبي ينافس الانتماء الوطني ويتغلّب عليه في أحايين كثيرة. وللحديث شجون..