هذا سؤال يُطرح يومياً في جميع وسائل الإعلام، وفي معاهد الدراسات الدفاعية في أرجاء العالم، لا سيما أن الجدل الذي تسببت فيه قضية تزويد ألمانيا الجيش الأوكراني بدبابات من طراز "ليوبارد -2 " قد فاق غيره من السجالات على هامش هذه الحرب.

وقد قادت دول أوروبية عدة معنية بدعم أوكرانيا بمزيد من السلاح من دول حلف شمال الأطلسي "الناتو"، مثل جمهوريات البلطيق الثلاث، وبولندا وحتى بريطانيا، حملة سياسية وإعلامية هدفت إلى حث ألمانيا، ثم دفعها إلى الخروج من موقفها الحذر والمتحفظ بالنسبة لتزويد أوكرانيا بهذه الدبابات التي تعتبر من أفضل الدبابات في العالم. وكانت برلين ولا تزال مستندة إلى موقف المتحفظ إزاء التورط في مسارح حروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لتكون مقلة جداً في دعمها لأوكرانيا في حربها الدفاعية ضد روسيا. ولعل مسارعة برلين قبل ذلك إلى تزويد كييف بمنظومات عدة من طراز "غيبارد" المضادة للطائرات على مستوى منخفض، هدف مع إلحاقها بناقلات جند مصفحة من طراز "ماردر"، إلى تحويل الأنظار عن المطالبة بتزويد كييف بدبابات "ليوبارد -2"، في وقت كانت بريطانيا تسارع إلى تزويد أوكرانيا بأربع عشرة دبابة بريطانية الصنع من طراز " تشالنجر -2 "، فيما زوّدتها فرنسا بعدد من الدبابات الخفيفة من طراز "آ إم إكس -10" متحفظة على دبابات "لوكليرك" الثقيلة.

لكن ظلت قضية دبابات "ليوبارد-2" بطرازاتها المتعددة هي بيت القصيد. وقد اعتبر المختصون بالشؤون الدفاعية أن هذه الدبابة هي الأهم في العالم، على الرغم من أنه جرى تطوير أكثر من 50 طرازاً من دبابات القتال الرئيسية. ومع ذلك، بقيت الدبابات الألمانية متفوقة من ناحية خصائصها على مستوى القدرات القتالية المبنية على التكنولوجيا المتطورة في ما يتعلق بنظام السير والتعليق والمدفع، حيث تشير دراسات عدة إلى أن "ليوبارد -2" متفوقة على جميع الدبابات في حلف "الناتو" من حيث القدرة على اختراق الدروع والتحصينات من مسافات بعيدة.

ما تقدم لا يجيب عن السؤال الأساسي: لماذا امتنعت برلين حتى الآن عن تزويد كييف بهذه الدبابات القتالية؟ بعض الخبراء يقولون إنه بسبب النقص في الأعداد الكافية المتوافرة لدى الجيش الألماني أو في معامل التصنيع "كراوس-مافي فيغمان". والبعض الآخر قال إنه بسبب ارتفاع كلفتها إلى حد بعيد مقارنة بكلفة الدبابات الأخرى المتوافرة وأسعارها. أما البعض الثالث الذي تناول الجانب السياسي فيقول إن إحجام ألمانيا لمدة طويلة عن قبول طلبات أوكرانيا من دبابات "ليوبارد-2" مردّه إلى وجود معارضة كبيرة داخل الحكومة الألمانية، إضافة إلى أنه لا تزال برلين تراهن على أن الحرب مع روسيا سوف تنتهي، ثم تعود الأمور إلى مجاريها مع موسكو، حيث قامت العلاقات بين البلدين منذ سياسة الانفتاح في أواسط السبعينات من القرن الماضي، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بدايات التسعينات من القرن الماضي أيضاً، على فكرة أن تكبير حجم المصالح الاقتصادية بين البلدين لا بد أن يحمي الاستقرار في شرق أوروبا، ولا بد أن يجعل القيادة الروسية تفكر كثيراً قبل أن تعود إلى ممارسة سياسات توسعية في محيطها الجيوستراتيجي المباشر، لا سيما في اتجاه أوروبا.

هذا الرهان سقط في الرابع والعشرين من شهر شباط (فبراير) 2022، عندما اجتاحت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية، علماً أن مقدمات هذا التوجه التوسعي كانت قد لاحت منذ عام 2014 عندما غزت القوات الروسية شرق أوكرانيا في منطقة الدونباس، واحتلت شبه جزيرة القرم ثم ضمّتها إلى أراضيها. وقد كانت ألمانيا على الدوام شديدة الحذر في قضية علاقاتها مع روسيا، وذلك منذ اللحظات الأولى للحرب الحالية. وقد أعلن المستشار أولاف شولتز عن تحول في مثابرة السياسة الدفاعية الألمانية، من خلال رفع ميزانية الدفاع الألمانية التي كانت منخفضة جداً مقارنة بحجم البلد واقتصاده. وبالرغم من ذلك، ظل الحذر في دعم أوكرانيا هو السمة الرئيسية للسياسة الألمانية.

في مطلق الأحوال، يشكل قرار برلين تزويد كييف بعدد من دبابات "ليوبارد -2" حدثاً لافتاً، لأنه قد يؤشر إلى تحول تدريجي في التدخل الألماني بجانب أوكرانيا التي تمثل عملياً خط دفاع أول عن أوروبا الغربية بمواجهة روسيا توسعية ومتوترة في آن معاً. وما بدأ بعدد قليل من الدبابات يحتاج أن يتطور ويتوسع ليصبح ذا ثقل في الحرب، حيث إن هذه الدبابات لا قيمة فعلية لها في الميزان ما لم تكن بأعداد كبيرة لا تقل عن 100 إلى 200 دبابة مع قطع الغيار والذخائر. لكن في هذه المرحلة التي تدخلها الحرب، وهي حساسة للغاية، وقد تنقلب لمصلحة روسيا في حال انهيار إحدى الجبهات، لا تملك أوروبا ترف التمسك بموقف حذر وخائف، ففلاديمير بوتين يلعب "صولد " كالمحترفين، فيما لا يزال الأوروبيون الكبار مثل فرنسا وألمانيا يلعبون بالقليل كالهواة.