طموحات مُتصلة ومتصاعدة للهيمنة الكاملة على النظام الإقليمي عبرت عنها بعض من القوى الرئيسة في منطقة الشرق الأوسط مُنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وقتنا الحاضر (1945 - 2022م). وبموازاة هذه الطموحات المُتصلة والمُتصاعدة كانت هناك رغبات باطنة، وواضحة، ومُعلنة، أبدتها ضمنياً، أو عبرت عنها صراحةً، القوى العالمية المهيمنة على النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية سواءً عندما كان ثنائي القطبية العالمية السوفيتية - الأميركية (1945 - 1991م)، أو عندما أصبح أحادي القطبية الأميركية مُنذ 1991م. فإذا أيقنا هذه الحقائق القائمة والمتمثلة في طموحات بعضاً من القوى الرئيسة في المنطقة، بالإضافة لرغبات القوى المهيمنة على النظام العالمي، فإننا نُدرك مدى التعقيد السياسي الذي تعيشه المنطقة، ونتفهم حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والأمني والعسكري الذي تعانيه المنطقة على مدى السبعين عاماً الماضية. وهذا الإدراك والتفهم لواقع وحال منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ عام تُساعدنا كثيراً على استيعاب الأحداث التي مرت بها المنطقة، كما أنها تمكننا إلى حدٍ كبير جداً من إدراك وفِهم المُستقبل المُراد للمنطقة، وماهية القوى الإقليمية التي يُراد تصعيدها فوق الإقليم وتصديرها للمجتمع الدولي. فإذا وضعنا ذلك كله في عين الاعتبار، فإننا هنا يجب أن نؤكد بأنه ليس بالضرورة أن تلتقي، أو تتفق، أو تتصادم، الطموحات الإقليمية للقوى الإقليمية مع الرغبات والتوجهات السياسية للقوى المهيمنة على السياسية الدولية. نعم، إنها مسألة مُعقدة ومركبة بشكل كبير جداً بحيث تمضي المُخططات السياسية المُرادة للإقليم بكل هدوء وسلاسة، لتُعيد رسم خارطته بما يتوافق ورغبات القوى المُهيمنة على السياسة الدولية، فإذا كان ذلك هو حال الإقليم ووضعه في السياسة الدولية، فكيف يُمكننا فِهم ومعرفة الواقع القائم في الإقليم؟ وكيف يُمكننا توقع شكل النظام الإقليمي بمنطقة الشرق الأوسط في المستقبل؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات التي تبدوا سهلة ومُباشرة يتطلب منَّا عرضاً وتوضيحاً وشرحاً مُباشراً للتطورات التاريخية القريبة التي شهدها النظام الإقليمي على مدى السبعة عقود الماضية. فإذا استوعبنا تلك التطورات المرحلية، فإن فهم الواقع، وإدراك الحاضر، وتوقع المستقبل، يُصبح سهلاً ومُيسراً وواضحاً. نعم، فعلى مدى السبعة عقود الماضية، شهد النظام الإقليمي خلالها تحولات عديدة في شكله وبنائه الهرمي مُتأثراً في مُعظم مراحله بطبيعة وشكل النظام العالمي وبالقوى المهيمنة على بُنيانه الدولي. نعم، فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية القطبية الثنائية في النظام العالمي (1945م)، ساد النظام الإقليمي القطبية الأحادية عندما كانت إيران الشاه تملك القدرات الكبيرة والإمكانات النوعية لتصبح بمساعدة ودعم وتأييد الولايات المتحدة القوة الإقليمية الأولى متفوقةً بمراحل على باقي القوى الإقليمية.

هذه القطبية الأحادية التي سادت فيها إيران الشاه تراجعت جزئياً عام 1956م لحساب جمهورية مصر العربية عندما قررت إعلان سيادتها الكاملة على جميع الأراضي المصرية بما فيها قناة السويس. فمع ذلك الإعلان وتعرضها لعدوان بريطاني - فرنسي - إسرائيلي، بالإضافة لانفتاحها السياسي على الاتحاد السوفيتي، أعلنت مصر عن مكانتها كقوة إقليمية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت منطقة ثنائية القطبية الإقليمية. وهذه الانطلاقة المصرية نحو المكانة الإقليمية الكبيرة تعززت بعد ذلك بالتمدد القومي في بعض الأقاليم العربية التي اجتاحتها موجة القومية العربية - الناصرية. إلا أن هذا التصاعد المصري نحو المكانة الإقليمية المرموقة تأثر تأثراً مُباشراً بالهزيمة العسكرية التي تعرضت لها مصر بالإضافة للأردن وسورية عام 1967م وفقدانها لجزء كبير من أراضيها في سيناء لصالح إسرائيل. قبل هذه المرحلة بقليل بدأ نظام القطبية الثنائية الإيرانية - المصرية يتلاشى تدريجياً لصالح نظام متعدد القطبية وذلك بصعود المملكة العربية السعودية كقوة إقليمية رئيسة في منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد أن تمكنت من تأسيس منظمة المؤتمر (التعاون) الإسلامي عام 1969م. هذا الصعود الكبير للمكانة الإقليمية الذي وصلت له المملكة العربية السعودية تعزز بشكل كبير جداً عندما قررت حظر مصادر الطاقة "النفط" عن الدول الغربية في مساندة مُباشرة للحرب التي أعلنتها مصر على إسرائيل في أكتوبر 1973م. هذا النظام الإقليمي مُتعدد الأقطاب ومتساوي النفوذ - الإيراني والمصري والسعودي - تعزز عام 1980م عندما أعلن العراق حربه على إيران الخُمينية ليكون بذلك قوة إقليمية رابعة قادرة على التأثير بالسياسة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. إلا أن دخول العراق للقطبية الإقليمية المتعددة لم يدم سوى عشرة أعوام حتى خرج تماماً من المعادلة الإقليمية عام 1991م بعد أن تم إخراجه بالقوة العسكرية من دولة الكويت التي احتلها في أغسطس 1990م. ومع هذا الخروج الصعب للعراق من نظام القطبية الإقليمية المُتعددة، عادت مُجدداً القطبية الإقليمية المتعددة لما كانت عليه قبل دخول العراق لتعود الهيمنة الإقليمية لإيران ومصر والسعودية. هذا النظام الإقليمي متعدد الأقطاب بقواه الرئيسة الثلاث، إيران ومصر والسعودية أضيفت له قوة إقليمية رابعة عام 2002م وذلك عندما قررت تركيا تحويل سياستها الخارجية نحو منطقة الشرق الأوسط بدلاً من التركيز فقط على مجموعة الاتحاد الأوروبي. ومُنذُ ذلك التاريخ وحتى وقتنا الراهن (2002 - 2022م) تعزز نظام تعدد الأقطاب في المنطقة بين أربعة قوى رئيسة، إيران ومصر والسعودية وتركيا. نعم، هكذا هو حال القطبية الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط حيث مرت بمراحل عديدة، وتأثرت بطبيعة وشكل وبنيان النظام العالمي والقوى العالمية المُهيمنة عليه. ولكن هل هذا التوصيف يُمكن أن يساعدنا في فهم واقع ومستقبل النظام الإقليمي؟

إن أهمية هذا التوصيف المُجرد هي مساعدتنا على التفكير لفهم واقع النظام الإقليمي وتوقع مستقبله وذلك بالنظر لطبيعة وسياسة القوى الإقليمية، وارتباطاتها العالمية، وآلية عملها في النظام الإقليمي. هذه المنطلقات المباشرة تخبرنا بأن هذا النظام الإقليمي مُتعدد الأقطاب الذي شهد تطوراً وتحولاً خلال السبعة عقود الماضية، يُراد له أن يتحول ويتغير في وقتنا الراهن وفي المستقبل. وهذه الرغبة بتغير شكل النظام الإقليمي ظهرت جلية بحالة الفوضى التي شهدتها المنطقة العربية بداية من عام 2011م لترهق وتستنزف المنطقة العربية ودولها الرئيسة، وتعززت هذه الرغبة بتوقيع الاتفاق النووي الإيراني مع القوى الرئيسة في السياسة الدولية (2015م) بالرغم من سياساتها التوسعية في الدول العربية، ودعمها وتبينها للتنظيمات والجماعات والعناصر الإرهابية في المنطقة والعالم. فإذا أضفنا إلى هذه التطورات والأحداث التي عززت من مكانة وقدرة إيران في المنطقة شعارات التصعيد العدائية (إعلامياً) بين إيران وإسرائيل، بالإضافة لما أعلنت عنه بعض الصحف الدولية في يناير 2023م من قيام إسرائيل بضرب مصنع أو معمل للصناعات العسكرية في أصفهان الإيرانية، فإننا نُدرك بأننا أمام سياسة عالمية، مرسومة بعناية، هدفها تصعيد قوى إقليمية على حساب قوى إقليمية أخرى ليتغير معها طبيعة وشكل وبنيان النظام الإقليمي.

وفي الختام من الأهمية القول إن الحراك السياسي المُتصاعد الذي تشهده المنطقة وخاصة مُنذُ 2011م، يُعبر بجلاء عن رغبة القوة الدولية الأولى بتغير تدريجي بنظام القطبية الإقليمية بالاتجاهات التي تتماشى مع مصالحها على حساب المنطقة العربية ودولها الرئيسة. نعم، على المنطقة العربية أن تُدرك يقيناً بأن هناك رغبة دولية ظاهرة بإعادة تشكيل النظام الإقليمي القائم مُنذُ خمسة عقود بحيث تصبح في هذا النظام الإقليمي الجديد المُجتمعات العربية في مكانة اقليمية أقل مما اعتادت أن تكون عليه. نعم، إن المنطقة العربية أمام تحديات مُتصاعدة ومُتسارعة تتطلب منها توحيد الصفوف، وتغليب المصالح العليا، وتجاوز الخلافات مهما كبُر حجمها، لتتمكن من المحافظة على مكانتها الإقليمية والتغلب على المؤامرات الإقليمية والدولية والعالمية، وإلا ستجد نفسها في مرتبة إقليمية فاقدة للتأثير.