إن اللبنة الأولى في البنية الاجتماعية عامة هي الأسرة كما تعلمون وكما يدونه علم الاجتماع نفسه. ولذا اهتم علماء هذا العلم بهذه اللبنة الأولى في كل أنحاء المعمورة.

قد يقول القارئ هذا كلام مستهلك، إلا أننا سنحلل هذه المقولة بتركيبتها البنيوية التي تجعل العقل يوقن تمام اليقين أن حياته هو قبل البنية الاجتماعية تترتب على شبكة العلاقات هذه، وكذلك تتسع دائرة الأسرة حتى نستطيع القول إن الدولة بمجملها تتكون من بنيتها الأولية أي أسرة واحدة. ولذلك قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى"، ولذا نبحث في أوهن البيوت التي تتماثل وبيت العنكبوت الذي وصفه المولى عز وجل بأنه أوهن البيوت..

فلندلف إلى عالم أسرة العنكبوت كي نتخذها نموذجا مصغرا للمنظومة المجتمعية التي تقوم عليها الدولة. لأننا نلاحظ أن المصالح تغلب على الكفاءة وتفشي سمة الواسطة أو ذوي القربى على حساب نهضة الدولة في أغلب الدول العربية؛ كما في هذا الأنموذج، والتي تحاربه الدولة في وقتنا الحالي وتجعل هذا الأمر نصب عينيها في عهد سيدي محمد بن سلمان -حفظه الله- ذلك لأنها تتمثل فيها الأسرة الكبرى التي إذا ما ساد البيت سمة المصلحة وهن إلى حد الانهيار، وهذا ما اجتاح أغلب وطننا العربي للأسف الشديد.

وسنتخذ من بيت العنكبوت على العكس من بيت النحل نموذجين مختلفين للبناء الذي يجب أن يتطور في الأولى ولا يتطور في الأخيرة حتى ذروة المجتمع. فلم يذكرها الله في كتابه الكريم عبثا وإنما للتأمل والتعقل! وهذا ما يجب حدوثه في مجتمع أمة القرآن، لكي نكون نبراسا في تعاملاتنا ومهامنا اليومية. فلماذا وصف الله بيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت؟

من هنا بحثنا فيه حتى وجدنا أن في أمر الأسرة العنكبوتية أمرا هائلا مخيفا في بنيته مما جعله الله دون غيره أوهن البيوت، كي يكون عبرة وعظة، وأهم ما يميزه عن غيره أنه يقوم على المصالح والفساد، فلقد قرأنا الآية بعدد سنين عمرنا ولم نتفكر في سبب هذا الوهن الخطير على البنية المجتمعية لمجتمع العناكب!

فإذا ما تتبعنا بالنقد والتحليل -وبحسب نظرية المجتمع لفيلسوف علم الاجتماع الفرنسي (لويس جولد مان 1913-1930) لتحليل البنى الاجتماعية- أخلاق العنكبوت كأنموذج فسنجده يقوم على المصالح، ولذا كان أوهن البيوت كما في الآية، وبحسب هذه النظرية سنجد أن بنية بيت العنكبوت تتكون من (دائرة قوة؛ دائرة النفوذ المتمثلة في الذكر أو الأب، والقوة البديلة المتمثلة في الأنثى، والقاعدة البنائية العامة المتمثلة في الأبناء، ثم القوة الصاعدة منها)، ولذا سنتتبع سلوك المصالح والفساد في مجتمعهم وفي هذا البيت الذي جعله أوهن البيوت كما وصفه الحق سبحانه وتعالى!

أولا: لأننا نجد بحسب هذا تحليل المنهج البنيوي أن الأنثى (القوة البديلة) لا تستجيب للذكر إلا عندما يقدم لها هدية عبارة عن حشرة ملفوفة بخيوط العنكبوت!

ثانيا: عندما تنشغل الأنثى بالأكل يستغل الذكر (دائرة النفوذ) انشغالها وتقوم عملية التزاوج، لكنه إذ لم ينتهِ من التلقيح قبل إنهاء الأنثى لوجبتها تنقض عليه هذه الأخيرة فتلتهمه هو الآخر (لكي تحتل منطقة النفوذ) وكلما كانت الهدية أكبر كانت فرصة نجاته أكبر بطبيعة الحال.

ثالثا: هناك (القاعدة العامة) من العناكب تسمح للذكر بالعيش في العش ليس إلا تبث سموم الأفكار وإيغار صدور الأبناء ومن بينهم (القوة الصاعدة) حتى يقومون هم بقتل الأب والتخلص منه ليس لشيء إلى للتخلص من مركز حقل الولاية المتمثل في الأب!

رابعا: ينمو الأطفال حتى تدرك تلك السلطة البديلة المتمثلة في الأم فتحقنها بالسم حتى الموت ثم يلتهمونها! رغبة في اعتلاء منطقة النفوذ بحسب المنهج البنيوي في علم الاجتماع.

خامسا: يبدأ الأبناء في صراع دائم على منطقة النفوذ، وهو ما يحمل المصطلح النقدي القاعدة العامة، فيقتل القوي منهم الضعيف فلا يبقى إلا القوي منهم، وهو ما يطلق عليه (القوة الصاعدة) فيشق قاعدة الهرم البنيوي طولا صاعدا نحو المركز لكي يصل إلى دائرة النفوذ فقد يصل أو يقتل، فينهار البيت لعدم وجود تلك الدعائم البنيوية التي يقوم عليها البناء وهي (سلطة المركز) التي تحتل قمة الهرم البنيوي لتنظيم كل علاقات الشبكة المجتمعية وتقوم على حمايتها؛ وقد تقتل القوة الصاعدة فلا تصل، كما أنها لا توجد دائرة القوة البديلة في هذا البيت الوهن والتي تقوم بتنفيذ أوامر دائرة النفوذ لأن القاعدة العامة المتمثلة في جموع العناكب قد تصارعوا معها قبل فوز القوة الصاعدة العنكبوت الأقوى الذي قتلهم جميعهم، تلك القوة الصاعدة التي تحاول الصعود لتخترق طبقات المجتمع للوصول لدائرة النفوذ.

هذه الدعائم لم تعد موجودة في بيت العنكبوت ولذا يهن ثم ينهار! فيذهب الأخير ويترك العش للبحث عن حياة جديدة في فضاء لا مكان له فيه! وتسمى علميا بظاهرة (matricide قتل الأم). ولذا وصفه الله سبحانه وتعالى بأوهن البيوت.

إن المجتمع العربي جله يعاني من ظاهرة قتل الأم، ليس بالمعنى اللغوي وإنما مجازيًا، لما تمارسه هذه المجتمعات القائمة على صراع المصالح والسباق المحموم على دوائر النفوذ ابتداء بالأسرة ثم الوظيفة حتى ينتهي الأمر بالدولة نفسها التي هي الأم بكل المقاييس، فإذا ما انتشر الفساد وسادت المصلحة تمكّن غير المؤهل على حساب ذوي الخبرة والعلم والمعرفة.. ولذا تنبهت دولتنا -حماها الله- لهذا، وأصدرت قوانينها ضد الفساد والمصالح والواسطة في عهد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- وهذا أحد مرتكزات رؤية 2030 المجيدة.