من المبادئ الأساسية في علم السياسة هو أن الطبقة الإجتماعية التي تمتلك وسيلة إنتاج كافية لسد حاجات المجتمع هي الطبقة التي تتولى الحكم والسلطة . وعليه فإن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة ليست هي الطبقة المؤهلة للحكم حيث ميزان الولايات المتحدةالتجاري يسجل عجزاً منذ ربع قرن بزهاء 0.8 ترليون دولاراً سنوياً . إنها بالقطع طبقة البورجوازية الوضيعةالتي لا تنتج من أسباب الحياة سبباً واحداً، ولو أن الطبقة الرأسمالية هي الحاكمة كما يسيء الإعتقاد الكثيرون من المتمركسين لفاض الإنتاج عن حاجة الشعب الأمريكي كما كان الحال في الخمسينيات . 

إنقلبت البورجوازية الوضيعة السوفياتية على الاشتراكية في الخمسينيات فماذا كان إنتاجها في النصف الثاني من القرن العشرين؟ وقف خروشتشوف في العام 1961 يفاخر بأن الاتحاد السوفياتي ينتج أكثر مما تنتجه أوروبا الغربية كلها بما في ذلك انجلترا وفرنسا وألمانيا أما اليوم فروسيا انحدرت إلى مصافدول العالم الثالث تعيش على تصدير المواد الخام وهي دون إيطاليا في مجمل الإنتاج .

البورجوازية الوضيعة هي الحاكمة اليوم في كل دول العالم مع أنها لا تنتج شيئاً وهذا مخالف لمبدأ أساسي في علم السياسة الذي يقول .. "من يُطعم يحْكم" . تتقوّل البورجوازية الوضيعة بما تسميه "إقتصاد المعرفة" لكن المعرفة لا تطعم، فالمعرفة ليست من الحاجات الحيوية للإنسان ؛ يجب أن يحيا الاتسان أولاً قبل أن يعرف . قبل ثورة المعرفة في الربع الأخير من القرن العشرين كان مجموع ديون العالم حوالي 70 مليار دولار فقط أما اليوم فهي تتجاوز 70 ترليون دولار إذ تضاعف الدين ألف ضعف وكل ذلك بسبب ما يوصف باقتصاد المعرفة وهو ما يدل دلالة قاطعة على أن إقتصاد المعرفة لا ينتج غير الفقر . كنا أول من يعلم أن البورجوازية الوضيعة السوفياتية قد نجحت في خمسينيات القرن الماضي بلجم العبور الإشتراكي . ولعلنا نحن اليوم أول من يعلم بأن البورجوازية الوضيعة لا تمتلك وسيلة إنتاج قادرة على بناء علاقات إنتاج ثابتة ومستقرة، وعليه فإن انقلابها على العبور الإشتراكي لن يؤدي إلى نتيجة . أما أن يدعي البعض ومنهم متمركسون بأن روسيا اليوم هي في معرض إنتقالها إلى الرأسمالية فما ذلك إلا بسبب فقر هؤلاء في علم الإقتصاد . نظام الإنتاج الإشتراكيالسوفياتي غير قابل بحكم تكوينه لأن يتحول إلى نظام رأسمالي ؛ ثم ليس معقولاً أن ينتهي النظام الرأسمالي في العالم كله ثم يعود ليبدأ من جديد في روسيا الإشتراكية !! حتى ولو كان سيبدأ فعلاً خلافاً لقواعد علم الإقتصاد لما بدأ بنهب مؤسسات الإنتاج في الاتحاد السوفياتي كما حدث فعلاً في التسعينيات بتعليمات من الرئيس الأفاق بوريس يلتسن ؛ اللصوصية ليست منطلقاً للنظام الرأسمالي . كان السبب المباشر لانهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات هو حصول كافة دول العالم على الاستقلال وامتناعها عن استقبال أي فائض للإنتاج من دولة أجنبية، فكيف ستتدبر روسيا الرأسمالية بفائض الإنتاج فيها . روسيا اليوم تعاني بشدة من قصور فيالانتاج فأي حماقة تلك التي تتحدث عن فيض في الإنتاج في روسيا !؟ ليس ثمة شرط واحد من شروط النظام الرأسمالي متوافر لروسيا الرأسمالية !!

 

البورجوازية الوضيعة التي لا تنتج من أسباب الحياة سبباً واحداً لا يجوز لها أن تحكم مجتمعها ؛ أما ما هو قائم اليوم وهي تحكم كافة دول العالم فما ذلك إلا هروب من الإشتراكية . كان هروب البورجوازية الوضيعة السوفياتية من الإشتراكية أمراً جليّاً لا يحتمل الشكوك ؛لكن هل ثمة مهرب تهرب إليه ؟ منذ سبتمبر 1953 هربت إلى التسلح لكن الشعب لا يحتاج إلى الأسلحة والتسلح هو دائما ضد التنمية حتى في النظام الرأسمالي هو كذلك . كانت خطة ستالين الخمسية الخامسة في العام1952 تنحصر في الإنتاج المدني لخير ورفاه الشعب،وهي الخطة التي ألغاها العسكر في سبتمبر 1953 منعاً للعبور الإشتراكي وبحجة كاذبة تقول بحاجة الاتحاد السوفياتي إلى الأسلحة لتعزيز أمنه الخارجي . وهكذا بدأ الاتحاد السوفياتي "الإشتراكي" بتصدير الأسلحة . وعلى ذمة أحد الضباط السوريين أن سوريا كانت تشتريمن السوفييت كل أربع بنادق كلاشنيكوف بليرة سورية واحدة وكانت تعادل 25 سنتاً، هذا عداك عن تعويض مصر وسوريا عما فقدت من أسلحة في حروبها مع اسرائيل . الإتحاد السوفياتي أغرق العالم بالأسلحة في الستينيات والسبعينيات معظمها بالمجان . طبعاً كان ذلك من أجل مقاومة الاشتراكية التي لا طريق لمقاومتها في الإتحاد السوفياتي غير التسلح . انتهى الأمر إلى تجويع الشعب وإفقاره وإلى تفكيك المشروع اللينيني والاتحاد السوفياتي وحل الحزب الشيوعي، ومع كل ذلك لا تستطيع البورجوازية الوضيعة الروسية أن تغير مسار العسكرة وها هي اليوم تعلن عن برامج جديدة للتسلح رغم أنها تعلم علم اليقين أن أحداً لا يستهدف أمن روسيا،لكنها تبرر التسلح بمقاومة الهيمنة الأميركية على العالم كما تفعل اليوم في سوريا، تجرد كل أسلحتها لمقاومة المخطط الأميركي في سوريا كما تشيع في روسيا وهي تعلم تماما أن أميركا لا تملك أية مخططات في سوريا وهي تحت ضغط محلي ودولي تساعد قوى المعارضة المعتدلة ببعض التجهيزات الحربية غير القاتلة كما يصر الرئيس أوباما .

ليس من مهرب أمام البورجوازية الوضبعة الروسية سوى إتلاف كل مقومات الحياة في الشعب الروسي على طريق التسلح، وهي لا تملك مهرباً آخر عن الاشتراكية فإما الإشتراكية وإما الفناء بالتسلح وليس لأحد أن يتوقع بأن الشعب الروسي سيروح إلى الفناء . البروليتاريا الروسية التي حطمت البورجوازية الدينامية في العام 1918 ستحطم البورجوازية الوضيعة خلال السنوات القليلة القادمة . 

ذلك هو سر البورجوازية الوضيعة الروسية الذي لم يعد سراً . فماذا عن سر البورجوازية الوضيعة في العالم الرأسمالي سابقاً ؟

 

ما لا يحتمل التأويل أو التبديل هو أن الولايات المتحدة إضطرت إلى الخروج من معاهدة بريتون وودز (Bretton Woods) في العام 1971 التي تربط النقود بالذهب، مع أن الولايات المتحدة هي نفسها من دعى إلى عقدها في العام 1944، هو أن الولايات المتحدة لم تعد تملك البضائع ومنها الذهب بما يتوازى نسبياُ مع كتلتها النقدية من الدولار الأميركي، وهو ما يعني حصراً أن النظام الرأسمالي لم يعد يعمل في الولايات المتحدة حيث النظام الرأسالي يتميز بالإنتاج الكثيف للبضائع ويصل به المطاف ليس إلى حدود الفيض في الإنتاج فقط بل حتى إلى حدود الفوضى . الرمز الأول لسيادة الدولة، أي دولة، هو ملاءة نقدها، فأن تفقد الولايات المتحدة وهي الدولة الرأسمالية الأعظم أول رموز سيادتها فما ذلك إلا لأمر عظيم لا يمكن تحديده بغير انهيار النظام الرأسمالي . انهياره في الولايات المتحدة يعني بالضرورة انهياره في كل العالم مثلما حذر وزير الخزانة الأمريكي زملاءه في دول مجموعة الخمسة الأغنياء (G 5) في محادثات (المكتبة) في نوفمبر 1974 حيث هناك تم الإتفاق على منطلقات إعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet)وهي منطلقات مجموعة الخمسة الكبار التي هي اليوم السبعة الكبار(G 7) بعد انضمام ايطاليا وكندا .

الإنقلاب العالمي والتاريخي الذي قرره الخمسة الكبار هو حماية عملاتهم في أسواق الصرف أي أن الدول الخمسة وهي الأغنى في العام تتضامن في كفالة أسعار صرف عملاتها (الدولار، الين، المارك، الفرنك والجنيه) بأسعار ثابتة وهو ما يعني مباشرة بفك الرباط بين البضاعة والنقد أي أن النقد لم يعد مكفولا بالبضاعة ومنها الذهب بل تكفله الدول الخمسة مجتمعة عن طريق المضاربة في أسوافق العملات. طبعاً ما كانت الدول الرأسمالية الأعظم لتتخذ مثل هذا القرار الإنقلابي لو أنها كانت تنتج البضائع الكافية لتغطية نقودها . كانت قد تخلت مضطرة عن إنتاج البضائع بعد أن استقلت الدول المحيطية ولم تعد مستقراً لفائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية . 

الدول الغنية الخمسة أو السبعة، أو الأحرى غير الغنيةفعلاً، تقول للعالم .. نحن لم نعد ننتج البضائع لكن نقودنا ستبقى هي الأقوى في أسواق الصرف !! هؤلاء الخمسة الكبار قرروا أن يتحولوا من رأسماليين إلى لصوص ينهبون العالم بنقود لا قيمة لها، فالنقود لا قيمة لها غير أنها معاير لقيمة البضاعة . والسوق لا تعترف إلا بالقيمة الحقيقية أو الفعلية للبضاعة كما للنقد . ولذلك تهاوى الدولار وهو ملك العملات إلى ما قيمتة خمس سنتات من دولار عام 1945 حين كانت أونصة الذهب ب 35 دولارا ووصلت في العام 2011 إلى أكثر من 1400 دولاراً .

كل لون من ألوان صورة العالم اليوم يؤكد أن النظام الرأسمالي في العالم بات بعد العام 1975 أثراً بعد عين خاصة وأن الولايات التحدة وهي الحصن الأخير للنظام الرأسمالي بعد الحرب العالية الثانية، والتي ارتكزت سياسة إدارتها الحمقاء على محاربة الشيوعية، نقلت إنتاج البضاعة من أراضيها إلى شرق آسيا كآخر محاولة لسد كوريدورات الثورة الشيوعية . تخلي الولايات المتحدة عن إنتاج البضاعة هو التخلي عن النظام الرأسمالي القائم أساساً على الإتجار بقوى العمل عن طريق تحويلها إلى بضائع .

بناءً على ما سبق، لسنا بحاجة لمحاكمة فكرية لكي نتوصل إلى حقيقة ماثلة لا تخطئها العين وهي أن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة هي طبقة البورجوازية الوضيعة . ولنا أن نذكر في هذا السياق المنافسة بين جورج بوش الإبن والمرشح الديموقراطي (آل جور) عام 2000 في من يمثل الطبقة الوسطى التي هي طبقة البورجوازية الوضيعة (Petty Bourgeoisie) منهما . وحينها كان الدولار يساوي 10 سنتات من دولار 1945 أما اليوم وفي عهد هذه الطبقة المفلسة فلا يساوي الدولار أكثر من خمسة سنتات ؛ وبعد ثلاث سنوات لن يساوي الدولار الأميركي أكثر من ثلاث سنتات من دولار 1945 . وإذاك ستُعلن الولايات المتحدة الأميركية دولة مفلسة فتنزل بالعالم كله كارثة كونية حيث قيمة الدولار هي ما يحكم العلاقات الدولية في عالم اليوم .

وهكذا فالطريق الذي هربت منه البورجوازية الوضيعة رفضاً للإشتراكية هو طريق مسدود حيث وسيلة انتاجها وهي الخدمات، والمعرفة منها، لا تطعم ولا تكسي، وحق بها قول الحطيئة ..

دع المكارم ولا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

رحلة البورجوازية الوضيعة التي بدأت هرباً من الإشتراكية حال رحيل ستالين في العام 1953 ستنتهي بفناء البشرية ما لم تستأنف البروليتاريا قبلئذٍ ثورتها الإشتراكية التي أعلنها لينين في السادس من مارس 1919 .

 

(إنتهى)