إذا كان هنالك عنوان لماركس فهو، الرأسمالية والعمل على قيام نموذج عادل وقانوني يتفوق عليها، إنسانيا واخلاقيا. هذا العنوان كان حاضرا لقرن من الزمان تقريبا. قرن من عمر البشرية كانت فيه الماركسية، اشتغال فعال على العدالة. النموذج الذي تلمسه ماركس نظريا، او ما عرف بالنموذج الشيوعي. جاءت ثورة أكتوبر، الذي مر على نجاحها قرن من الزمان، وتأسس فيها الاتحاد السوفييتي كنموذج للتفوق الإنساني والأخلاقي. لكن سرعان ما دخل هذا النموذج لعبة السلطة من جهة، ولعبة الحرب الرأسمالية عليه بزعامة الولايات المتحدة. كان نموذجا لسلطة ديكتاتورية، ارتكبت الفظائع بحق معارضيها. كممت الافواه،نموذج قمعي للسلطة، تم تصديره لكثير من دول العالم الثالث، كما كان يعرف خلال هذا القرن. على المستوى الشخصي، كنت من الرافضين لهذا النموذج البيروقراطي الديكتاتوري. لانه لا عدالة اجتماعية بدون حرية سياسية. رغم كل هذا الذي يقال عن القمع، او ماكان في دعايات الغرب، انه نموذج لتعميم الفقر. أو نموذج لجعل الناس متساوين في الفقر وقلة الكرامة. إلا انه بقي نموذج يحاكي طموحات الشعوب الفقيرة على الأقل. بقي نموذج على مستوى السياسة الدولية. لا تكفي بالطبع هذه العجالة كي نفصل ببقائه نموذجا. لكن استطاع ان يكون مرجعية دولية لها حضورها في الصراع الدولي على مناطق النفوذ في العالم. صار العالم بعد الحرب العالمية الثانية معسكرين. المعسكر الشرقي بزعامة السوفييت، المعسكر الغربي بزعامة أمريكا. بقي هذا الصراع بين النموذجين خمسة عقود تقريبا، وانتهى بسقوط السوفييت 1990 . خمسة عقود كانت مناطق النفوذ لها مرجعيتين: شرقية وغربية. لا اريد الحديث هنا عن الصين، لانها كانت وبقيت تجربة خاصة، بحكم عدة عوامل، كانت فقط نظريا محسوبة على المعسكر الشرقي. 
بسقوط السوفييت صار الغرب بقيادة أمريكا هو المرجع الكوني الوحيد في العالم. خارجه لايوجد مرجع آخر.الاسلاميون يطرحون انفسهم كنموذج للحكم في العالم. هذا الوهم بددته تجاربهم على الارض. المتشدد منها كان وبالا الخميني وطالبان، والمعتدل اعتمد على ما بنته الحضارة الرأسمالية من نموذج للحكم: ماليزيا وتركيا مثالا. الدولة الحيادية بوصفها دولة قانون، والليبرالية كنظام اقتصادي والديمقراطية كنظام سياسي. تركيا يحكمها اسلاميون،ويديرها النموذج الرأسماليي. إنها الحياة الآن بسلبها وايجابها. 
"روسيا المنبعثة من رحم النظام السوفييتي المنهار، ورثت عنه أمران هما قوته العسكرية الجبارة واقتصاده الضعيف،فالروس يعتمدون بنسبة 40% من اقتصادهم على صادراتهم من الطاقة “نفط وغاز” وتأتي نسبة أخرى من تصدير وبيع الأسلحة، وخارج هذين الأمرين تبقى التكنولوجيا الروسية متخلفة بالقياس مع مثيلاتها في دول الغرب أو اليابان أو بعض دول آسيا المتطورة". هذه الروسياتدور في فلك النموذج الغربي الراسمالي. دولة رأسمالية مشوهة بنظامها السياسي الديكتاتوري، والمنضبط مافيوياعلى الصعيد الداخلي. العصب المافياوي هو بوتين. ناتج عن حالة الانتقال من اقتصاد الدولة البيرقراطية العامة- نسبة لملكيتها لكل الإنتاج ووسائله في عهد السوفييت- إلى اقتصاد السوق والمافياوية كانت نتاج لهذا التحول، دول تجاوزته ودول استطاعت المافيات الوصول الى اعلى هرم السلطة بوتين نموذجا. هل بوتين روسيا نموذج؟ 
بماذا يختلف بوتين عن أي ديكتاتور في" العالم الثالث"؟ماقام به بوتين في روسيا مهزلة على صعيد النظام السياسي، يخجل منها ربما رؤساء دول ضعيفة، فمابالكدولة تطرح نفسها لقيادة العالم!!: منذ مجيئه للحكم 2002 اتى بلافروف وزير للخارجية، ومديفيدييف رئيسا للوزراء.
بقي لافروف وزيرا للخارجية بعدما، دفع بوتين صبيه مديفديف ليرشح نفسه في الانتخابات مرة واحدة، بحكم ان الدستور الروسي ليس على مقاس بوتين، يسمح فقط بفترتين رئاسيتين. وبقي بوتين رئيسا للوزارء في تلك الفترة، كما هو حال مديفديف الآن عاد رئيسا للوزراء وبقي لافروف وزيرا للخارجية!! 

الروس استخدموا حق النقض “الفيتو” إحدى عشرة مرة ضد قرارات تجرّم النظام الأسدي، ومع القناعة بأن الروس يدركون تكوين وطبيعة هذا النظام القهرية المدمرة، والمنبوذة،ومع ذلك يصرون على إعادة إنتاجه، فما الأسباب الحقيقيةللإصرار الروسي على الدفاع عن نظام مجرم؟ يتسائلالصديق أسامة آغي في مادة له عن الفيتو الروسي الأخير في مجلس الامن دفاعا عن الكيماوي الأسد.
يقول الصديق برهان غليون" كيف يمكن لدولة تستميت في الدفاع وحماية مجرمين متهمين علنا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية أن تكون وسيطا في مفاوضات الحل السياسي في سورية، وكيف يمكن لنظام روسي استخدم الفيتو عشر مرات لتعطيل قرارات الأمم المتحدة في المسألة السورية، ورفض أي قرار لا يضمن بقاء الأسد ونظامه الدموي في السلطة، ووقف ضد ارادة السوريين أو أغلبيتهم، وإرادة المجتمع الدولي ذاتها، أن يقود مفاوضات الحل بنجاح، بل أن يدعي العمل من أجل سورية ومصلحتها والسلام والاستقرار والأمن في ربوعها؟" حاولت ايراد رأيين للنخب السورية في توضيح الموقف الروسي. طبعا كثيرة هي المقالات والبحوث التي تتحدث عن سبب الموقف الروسي والفيتو الروسي لصالح اجرام الاسد، كلها تغفل جانب برأيي هو الاهم: ان الاسد خوفا من سقوطه، اعطى بوتينبموافقة اوباما هذا الامتياز بالتدخل، لولا ذلك لما استطاع بوتين ان يتدخل لوحده. تدخل روسيا كان بسبب خوف الاسد واوباما من سقوطه، اما ماحدث لاحقا وما اعطاه الاسد لروسيا مقابل ذلك، يمكن ان يحكى الكثير، بغير هذه المنحة الاسدية الاوبامية بوتين لايساوي حتى وزنه المالي داخل روسيا في السياسة الدولية!!
لا يمكننا الحديث عن الموقف الروسي، دون ان تكون هذه الحقيقة ماثلة امامنا وإلا تضيع البوصلة في رؤيتنا لحجم الموقف الروسي، وتضللنا في فهم الموقف الأمريكي، في انه ضعيف او متردد او متراجع. أمريكا تقود الملف.
اذا نحن في عالم يقوده نموذج واحد، يشكل مرجعية لكل الدول. نموذج رأسمالي. هذا النموذج يسمح لسلطات فاسدة ومجرمة في كل العالم، ان تزحف بين دهاليز الدول الفاعلة. السلطات الفاسدة هي مجموعات مافياوية عابرة للدول. لدينا ضواري رأسمالية تتحكم بالعالم. هذا الشكل من التحكم بالذات يسمح لبقاء القتل على راي سياسي، او على تظاهرة ترفض نظام حاكم مجرم. هذه الضواري ليست كلها تحمل نفس القوة، والسيطرة والهيمنة. حيث لامريكاالحصة الأكبر في التراتب العالمي للسيطرة والنفوذ. غياب تام الآن للميثاق العالمي لحقوق الانسان، عن كل المداولات الدولية والاقليمية بخصوص سورية، واي بلد يحكمه ديكتاتور فاسد ومجرم، خير دليل على ما نقول به. لهذا ليس مفاجئا ان تجد في مجلس الامن الذي يمثل الان النموذج الرأسمالي في القانون الدولي. حيث جعل من بوتين ازعر العالم. 
نقطة أخيرة: ما نشاهده من ممارسات النخب الحاكمة في الدول الديكتاتورية، السخف، الدونية، الرخص في عرض مصير شعوب بلدان تحكمها بالحديد والنار، فكما هنالك بات لها تاريخ من الاستقرار الديمقراطي، هنالك دول تتراوح بين الزعرنة والمافياوية والقبضة الحديدية المجرمة.
هذا هو العالم الآن. نحن كسوريين في وسطه. بوتين يشبه كثيرا بونابرت الثالث. سبب الدعم للاسد انه اعطى لروسيا مكسبا ما كنت تحلم به، التنسيق الإسرائيلي الروسي يوضح عمق التغطية الامريكية الإسرائيلية لهذه الخطوة. لكن في النهاية هي خطوة مضبوطة أمريكيا واسرائيليا ومسيطر عليها. نعم الأسد من ادخل الروس الى سورية، الأسد لا يدخل روسيا دون ضمانات حقيقية بأنها ستدافع عنه حتى النهاية. ومجازر الغوطة والدير وغيرها في هذه الأيام التي نرى فيها نتائج مؤتمر الرياض2 توضح ذلك. من جهة أخرى هامش المناورة امام الروس بالتخلي عن الأسد تكاد تساوي الصفر. من هنا يجب فهم الموقف الروسي. العمل يجب ان يجري في واشنطن لا في موسكو ولا في الرياض ولا في طهران ولا في انقرة. ذاهبون الآن الى جنيف الثامن ولا يحملون في جعبتهم، ما يفاوضون عليه سوى : كيفية الاندراج في السياق الروسي. يجب ان يفهموا الروس بحاجتكم كما العالم، حتى لو أرادوا تأهيل الأسد فهم يحتاجونكم لذلك. اتركوهم يعيدوا له الشرعية لوحدهم، إن لم تكونوا قادرين على اسقاطه. 
غسان المفلح