في الخريف، وفي الشتاء، تبرد الصحراء ليلا، ويكون الصقيع لاذعا في الفجر،ولا يعود الدفء إلاّ عند الضحى لكن الرغبة في استقبال النهار الجديد ، يحرّضني على النهوض باكرا لأغادر فندق "المرادي"في السادسة والنصف صباحا السكون مخيم على المدينة وعلى الواحاتالصحراء ترتجف في إنتظار انتشار نور الشمسولا شيء على الأرصفة سوى عربات أحمرة ينوس عليها رجال ينتظرون سيّاحا يرغبون في جولة مُبَكّرةبعد أن قطعت مسافة قصيرة في الطريق المؤدي إلى قلب مدينة توزر،إنحرفت يمينا،وسرت في طريق معبد بطريقة سيئة، وفيه تكثر الحفرولم يكن على هذا الحال سابقا.لكن بعد إنهيار نظام بن علي، عمّت الفوضى ، وتشوهت المدن بسبب تراكم الفضلات،ودمّرَ جزء كبير من البنية التحتية، وانتفت مظاهر التحضر والتمدن لتسود الهمجية باسم"الثورة المباركة"، ولتصبح الشعبوية سيدة المشهد الإعلامي والثقافي والسياسي في بلاد حنبعل، وابن خلدون،وأبي القسام الشابي، والحبيب بورقيبةوها الرعاع والعامة، أحفاد بني هلال الذين خربوا تونس في أواسط القرن الحادي عشر، وأحرقوا حدائق القيروان الأغلبية ،وبساتينها، ومكتباتها لتكون حطبا لقدورهم الطينية، وشنقوا علماءها، واغتصبوا نساءها ،ويتّموا أطفالها، يعيثون نهبا وفسادا وتخريبا في كل مكان من أن دون يتمكن أحد من ردعهم.ألم يكن ابن خلدون على حق عند شبههم بالجراد الذي لا يبقي ولا يذروعلى حق أيضا أولئك الذين حذّروا من سطوة العامة، ومن نزعاتها الدموية والتخريبية أمثال الجاحظ، والتوحيدي ،والمسعودي الذي قال عنها بإنها-أي العامة-"لا تميّزُ بين الفاضل والمفضول،وبين الفضل والنقصان"،ولا معرفة لها للحق من الباطل". وهي تنقاد بيسر وسهولة إلى "قائد دُبّ"،وإلى "ضارب بدفّ على سياسة قرد".وهي "تتشوّق إلى اللهو واللعب"،وتهبّ للإستماع إلى ّقاصّ كذّاب". وقد أنجبت توزر واحدا من الذين أنقادت لهم العامة ،أعني بذلك مخلد بن كيداد، الملقب بّصاحب الحمار"(القرن التاسع ميلادي).وفي البداية كان مؤدبا يعلم القرآن للصبيان ، ثم ركب حمارا وسمى نفسه "أمير المؤمنين"، وكوّن جيشا من أتباعه ليعيث في البلاد نهبا فلم تسلم من شره ،ومن عطشه للدم والثأر وارتكباب المحرمات والُمنكرات مدينة كبيرة أو قرية صغيرةوقد جاء ما يسمى ب"الربيع العربيفي تونس بأشباه "صاحب الحمار الذين بسطوا سلطتهم على العامة اعتمادا على الشعوذة الدينية، والشعارات الجوفاء، والوعود الكاذبة، والتحريض على العنف،والتخريبوهذا ما يفسر إنفجار العديد من الصراعات المذهبية والعشائرية والقبلية في مناطق الجنوب التونسي بالخصوص.

واصلت سيري لأجد نفسي في "الخلوة"التي كان الشاعر أبو القاسم الشابي، يلجأ إليها كلما زار أهله في توزر ليكتب قصائده،أو ليغرق في تأملاته الروامنسية وقد اكتسب الشابي كل مواصفات الشعراء الروامانسيينومثلهم رحل مبكرا عن الدنيا ورغم أنه قرأهم في ما توفر له من ترجمات إ ذ أنه لم يكن يحسن أية لغة أجنبية فإنه تأثر بهم، وبأفكارهم ليكونوا قدوة له فكان يفرّ إلى الطبيعة ليناجي الطيور والأشجار والأزهار والقمر والنجوم والشمس عند غروبها أو شروقهاوما أظن أن هناك شاعرا تونسيا من جيله أو من الأجيال اللاحقة تغنى بطبيعة تونس في جميع تجلياتها في مختلف المناطق مثلما فعل هو في ديوانه اليتيم"أغاني الحياة". كما أنه كان نقيضا لّصاحب الحمار" . ورغم أنه كان من خريجيّ جامع الزيتونة، فإنه كان رافضا للتشدد والتزمت الديني، مُنتصرا للإصلاح والحداثة، مقاوما لنزعات التطرف والعنف، ومدافعا شرسا عن أنبل المبادئ الإ نسانية المتمثلة في الحرية، والعدالة، والسلام بين الأديان والشعوب

تقع "الخلوةعلى مرتفع يطلّ على مدينة توزر وواحاتها، وعلى "شط الجريد الذي بدا أشهب في نور الصباح الطالع.وفي كتابه"المسالك والممالك"،وصف ابو عبيد البكري "شط الجريدب"الأرض السوّاخة لا يُهتَدَى إلى الطريق فيها إلاّ بخشب منصوبة". ومن يضل ّ طريقه في هذه الأرض يمينا أو شمالا، "غرق في أرض تشبه في الرطوبة بالصابون".ويذكر أبو عبيد البكري أنّ عساكر وجماعات هلكت فيها كما يشير إلى أن توزر تنتسب إلى منطقة كانت تسمى ب"بلاد قسطيلية" .وهي تضم إلى جانب توزر مدنا أخرى متجاورة مثل نفطة والحامةلكن توزر هي "الأم" .وهو يصفها قائلاوهي-يقصد توزر-مدينة كبيرة عليها سور مبنيّ بالحجر والطوب،ولها جامع مُحْكَمُ الببناء وأسواق كثيرة، وحولها أرباض واسعة آهلة،".كما يذكر أبو عبيد البكري أن حول توزر"سواد عظيم من النخل".وهي أكثر بلاد إفر يقيةّ(إسم تونس القديمتمرا ويخرج منها في أكثر الأيام ألف بعير موقورة تمرا وأزيد". ولكثرة الاواحات فيها، كانت توزر تسمى"جنة الأرض".وقد قام العالم والأديب إبن شباط (القرن الثالث عشر،وهو واحد من اشهر أبنائها بابتكار مخطط لتقسيم المياه في الواحات بطريقة عادلة .ولا يزال هذا المخطط العجيب ساري المفعول إ لى حدّ هذه الساعةلكن بسبب الإهمال وعدم العناية،ونقص المياه، لم تعد الواحات"جنةكما كانت في القديمفالمتعلقون بها، والعارفون بحاجياتها وبأسرارها ماتوا أو شاخوا وتعبوا .أما الشبان فينفرون من العمل فيها.وأغليهم يرغبون في الفرار إلى المدن الكبيرة وهناك من يغامر ليلقي بنفسه في مراكب الموت راغبا في الهجرة إلى أوروبافإن وصل لن يجدالجنة الموعودةالتي كان يحلم بهاوقد رأيت في مدن أوروبية كثيرة شبانا تونسيين هاجروا سريا يعيشون ظروفا قاسيةوكثيرون منهم بلا مأوى ،ولا يتدبرون قوت يومهم إلاّ بصعوبة كبيرةوعندما تضيق السبل بأحدهم، تتلقّفه مافيات المخدرات والجريمة المنظمة ليجد تفسه في السجن لأعوام طويلةوتشير الإحصائيات أن آلافا من الشبان التونسيين يقبعون في السجون الإيطالية، والفرنسية، والبلجيكية وغيرها بسبب ترويج المخدرات،أو اقتراف جرائم قتل ونهبوقد تستغل التنظيمات الأصولية الإرهابية الأوضاع المزرية لهؤلاء الشبان فتجندهم للقيام بعمليات لصالحهاوهذا ما حدث مع العشرات منهم.

كانت الحركة اليومية قد بدأت تدبّ في المدينة، عندما وصلت إلى السوق يعجبني دائما أن أشهد حركة الناس وهم يقتنون ما يريدون من الخضر والغلال واللحموكان هناك نساء ورجال من العاصمة، ومن مدن بعيدة مثل صفاقس وسوسة، يتجولون في السوق لشراء قفاف السعف البديعة التي تصنع في توزر، وعراجين الدقلة(أجود أنواع التمور في واحات توزر). ويأتي هؤلاء إلى توزر خصوصا في فصل الخريف والشتاء هربا من الرطوبة،ومن التلوث في المدن الكبيرة لينعموا بطقس الصحراء الجاف وهذا ما كان يفعله أيضا الزعيم بورقيبةوقد روى لي أحد ابناء توزر أنه-أي الزعيم بورقيبة-كان يستهويه النهوض مبكرا للقيام بجولات في الوحات وحده،أو برفقة زوجته "الماجدةوسيلة بورقيبة.وفي الليل كان يدعو البعض من أعيان المنطقة ليسمر معهم، وليستمع إلى قصصهم وحكاياتهم وطرائفهم ونوادرهم التي اشتهروا بها في جميع مناطق البلاد،والتي تزداد حلاوة وعذوبة، عندما يروونها بلهجتهم الخاصة التي يكثر فيها حرف"التاءفي بداية الأفعالتنقوم، تنرجع، تنربح، تنفيق، تنخسر، تنموت...وكان الرئيسان الفرنسيان فرانسوا ميتران، وجاك شيراك ،وشخصيات أوروبية أخرى يحبون التردد على توزر خصوصا في فصل الخريفوكان يحبون أيضا الجلوس إلى الشيخ عمار الذي كان بارعا في قراءة الكفأمّا الآن فقد فقدت توزر الكثير من جمال وخصوصيات عوالمها القديمة،.ومثل المدن الأخرى اكتسحتها مظاهر الحداثة الزائفة والمعطوبة لتشوه سحرها البدائي الرائع...

آخر المساء، جلست في شرفة الفندق لأستمتع بمشاهدة غروب الشمس على الواحات.ظللت أتابع تحوّلات الألوان على الأفق إلى أن غمرني الظلام، وتلألأت النجوم في السماء الصافية لتهب الليل الصحراوي بهاء ساحرا ألهب نزوعي للمكوث وحيدا مستغرقا في أحلامي وتأملاتي وأوهامي ولا أنيس لي سوى كأسي ...