الثورات والانتفاضات التي يرافقها اعمال عنف وحرق لدوائر ومؤسسات الدولة تعني انهيار العقد السياسي بين الناس وبين الحكومة التي تم انتخابها من قبلهم، هذا هو خلاصة ما جرى في البصرة خلال الايام الماضية.

تظاهرات البصرة كانت حالة بانورامية اختلطت فيها الاوراق واعلنت بدأ مرحلة جديدة في الحياة السياسية في العراق ، ملامح هذه المرحلة بدأت في التشكل منذ فترة طويلة ولكنها بلغت ذروتها في احداث البصرة.

صراع القوى الاقليمية والدولية من جهة و صراع الاحزاب الشيعية وخاصة انقسام حزب الدعوة وترسخ الطبيعة النفعية للاحزاب السنية التي تدور في فلك الكتل الشيعية الكبرى لتستفاد من الصراعات البينية لتحقيق المنافع وايضا جمود وسلبية الاحزاب المدنية مضاف الى ذلك نهاية عصر الاباء المؤسسين لعراق ما بعد ٢٠٠٣ وهنا اقصد سياسي الرعيل الاول الذين جلبتهم الولايات المتحدة والذين كانوا يؤدون دور الحامي والضامن لنجاح العملية السياسية وهيكلياتها المشوهة.

هذا الشتات السياسي كان لابد من ان يلقي بضلاله على الواقع الخدمي والانساني للمدن العراقية ، لهذا قبل الانتخابات حذر العديد من الباحثين والمراقبين للشأن العراقي من اهمية ان تكون انتخابات ٢٠١٨ افضل من كل النسخ السابقة وعلى ان يتحمل كل السياسيين المسؤولية الاخلاقية والوطنية لاعادة بناء واعمار العراق لمرحلة ما بعد داعش وايضا انقاذ كل المدن العراقية من ازماتها الاقتصادية والخدمية الخانقة والاهم من ذلك استيعاب خطورة السلاح خارج سيطرة الدولة والمؤسسات المسلحة التي تشكلت لمحاربة داعش والتي هي عبارة عن مليشيات منفلتة سوف تعود للمدن وسيتم استغلالها لحقيق النفوذ السياسي من خلال الترهيب واعمال العنف.

ولكن الاحزاب والمكونات السياسية في العراق تجاهلت الحالة المزرية للمدن العراقية و تجاهلت معانات الناس اليومية وعادت لتمارس كل عادتها السيئة المكتسبة من تجربة العراق السياسي منذ ٢٠٠٣ ولحد اليوم.

بل واجادت في نسخة ٢٠١٨ لتضيف بدعا جديدة متمثلة بالتزوير وحرق صناديق الانتخاب ومهزلة مراكز الانتخاب في الخارج والسجون والتزوير في كركوك. ثم بعد مأساة الانتخابات دخلنا في ملهاة تشكيل الكتلة الاكبر واعلان كتلتين اكبر وتمسك كل واحدة بحجج انها اجدى، لتصيب الحياة السياسية في العراق في مقتل وتعلن اصابتها بالشلل الكلي.

فوضى الحياة السياسية حولت البصرة الى ساحة تنعكس فيها مخرجات هذا الصراع السياسي المحتدم واختلطت مطالب الناس المشرروعة مع صراعات المليشيات الامر الذي صار يهدد حراك البصرة بان يتحول الى كارثة.

لا شك بان البصرة تعاني من ازمة واهمال خدمات وبطالة خانقة، ولكن هذه الازمة شاملة لكل مدن العراق بما فيها العاصمة بغداد وبالتالي انتفاضة البصرة كان لابد ان تكون حراك شعبي شامل يعلن فيه جميع العراقيين انتهاء عقدهم مع كافة المؤسسات السياسية التي تحكم العراق -كما فعل اهل البصرة- وان العراقيين قد سحبوا الشرعية عن وجود هذه المؤسسات وبالتالي فان العملية السياسية وكل قراراتها صارت غير قانونية غير ملزمة للعراقيين.

لقد كان من الممكن لانتفاضة البصرة ان تكون نهاية لهذه العملية السياسية الهزيلة لو ان انتفاضة البصرة انتشرت في كل المدن العراقية خاصة وانها لا تقل في حطامها عن حطام البصرة ولكن يبدوا ان الوعي الشعبي في العراق لايزال سلبي في تعامله مع تحديات البلاد ولايزال يفضل السكوت والتفرج من بعيد.

لذلك ثورة البصرة قد تذهب مع الريح مثل غيرها من الثورات والانتفاضات الشعبية التي تم تحويرها لتتحول من حراك سياسي شعبي منظم وعادل الى فوضى واعمال عنف وحرق وقتل.

وهكذا تحولت اغلب الانتفاضات في العراق الى كوارث زادت من ازمة الناس وعمقت وجود السياسيين واكسبت وجودهم الحجج والمسوغات الشرعية.

لقد حان الوقت لكي يتدارك الناس حجم معاناتهم وانهم يمشون الى طرق مسدودة مع هذه العملية السياسية، حان الوقت لكي يدرك الناس ان البصرة هي حالهم في كل يوم وان الماء القذر في البصرة هو ذاته الذي يشربون منه وان من يشعل الحرائق في البصرة هو ذاته الذي يطفئ جذوة كل حراك شعبي ويحولها لصالح بقائه واستمراره.

ايضا حان الوقت للعملية السياسية في العراق لان تنتهي وان تجرى فيها عملية اصلاح شاملة تشمل كافة مؤسساتها وخاصة الدستور وقانون الانتخابات وقانون الاحزاب كل تلك الاطر القانونية التي تشكلت في وقت الاحتلال وتم صبغها وتلوينها لانجاح مغامرة الولايات المتحدة في احتلال العراق وتقلل خسائرهم.

دون هذا الاصلاح ودون تطور الوعي الشعبي سيتحول العراق من شماله الى جنوبه الى ارض الكوارث وسيكون كل يوم هنالك&حريق وكل يوم ستظهر موصل اخرى وانبار تنهار وبصرة تحترق.