شهدت الأعوام التي أعقبت ثورات "الربيع العربي" حراكًا إعلاميًّا ناشطًا وانفتاحًا، تجلت في انطلاق العديد من الفضائيات والقنوات التلفزيونية التي تبث من خارج تلك الدول، وذلك إثر تعذر العمل من الداخل سواء لجهة استمرار الحرب كما في سوريا، أم لجهة "تجريم" بعض حركات المعارضة كما في غيرها من البلدان . بيد أن معظم تلك المنصات الإعلامية باءت بالفشل الذريع ولم تستطع أن تؤسس لخطاب إعلامي إحترافي "محايد" ذو مصداقية، وأن تكون موضع ثقة المتلقي، حيث كرست تلك الوسائل خلال الأعوام الخمس الأخيرة خطابًا إعلاميًا يشبه في مضامينه الفكرية المجردة "إعلام الأنظمة" وان بدت الصورة مضادة في الشكل .

لا شك أن بداية إنطلاق تلك القنوات كان بهدف تزويد المتابعين بالأخبار والمعطيات الداخلية، من أجل تحقيق نوع من التوازن على الساحة الإعلامية، ولكنها تحولت مع مرور الوقت (عن قصد أو غير قصد) الى مصدر لنشر الأخبار "الكاذبة" والتقارير الغير دقيقة، مما جعلها غير موثوقة وأصبحت لا تختلف عن إعلام الأنظمة في تسويق "أجندات المصالح" دون الوقوف عند القضايا الإنسانية المحقة .

وقد ساهمت العديد من العوامل إلى تحويل تلك الوسائل إلى مجرد أبواق إعلامية خارجية دون أن يكون لها دور حقيقي في بناء الإنسان فكريًا وحضاريًّا، وهذا هو حال معظم الإعلام العربي الداخلي منه والخارجي إلا القليل النادر الذي يحاول أن يتحرك في إطار هامشٍ ضيق يقدم من خلاله بعض الرؤى البعيدة عن أي اصطفاف أو تسويق لأيديولوجية أو تصفيق لزعيم أوتلميع لأي جهة كانت !

ومن أبرز تلك العوامل بطبيعة الحال وأكثرها تأثيرًا هو "التمويل"، حيث تجد معظم القنوات الاعلامية في المهجر نفسها أمام خيارين: إما الخضوع لرغبة الممول وتوجيهات الملاك والجهات الداعمة؛ أوالإغلاق لعدم المقدرة على مواصلة الانفاق. حيث غالبًا ما يعمد المُموِّل إلى استخدام وسيلة الاعلام التي يدعمها كوسيلة لتصفية خصومه السياسيين .

ناهيك عن الضغوط السياسية "أحيانًا" التي تمارسها الدول المستضيفة لتلك القنوات على أراضيها، لا سيما إن كانت تلك الدول نفسها تعاني من انعدام "الحريات" و"الديموقراطية"؛ فكيف لدولة توجّه "اعلامها " الداخلي وتتدخل به، أن تكون منبرًا حرًّا للشعوب الأخرى؟!

يضاف إلى ذلك قلة خبرة الفريق العامل و ندرة المراسليين الفعليين ذو الكفاءة، لنقل الأخبار عن أرض الواقع لا سيما في الدول التي تشهد حروبًا ونزاعات مسلحة، كما في الشأن السوري على سبيل المثال لا الحصر، حيث تعتمد معظم تلك الوسائل الاعلامية على "المواطن الصحفي " غير المحترف، كما أنها لا تمتلك وسائل لتنويع مصادرها الخبرية لفهم وجهة النظر الأخرى!

فإعلام الأنظمة يكتفي بعرض الصورة التي تحددها الجهات الرسمية دون بذل أي محاولة جادّة للتواصل مع أي رأي معارض، كذلك الفضائيات المعارضة تكتفي بنقل المشَاهد التي تناسب توجهاتها، في ظل انعدام امكانية التواصل مع مصادر معلومات من داخل مؤسسات النظام .

كل العوامل السابقة آنفة الذكر على أهميتها تبدو ظاهرية ، فيما المشكل الأعمق في الإعلام العربي بشقيه المحلي والخارجي يكمن في غياب "الوعي" والذهنية المنفتحة القادرة على تجاوز الغلو في الصورية ، وتجاوز صفة الإطلاق على الموضوعية ؛ إضافة إلى غياب ثقافة إحترام الإنسان وحقوقه بالكامل بما فيها الحقوق الآدمية لمن يصنف على أنّه "خصم" ، وهنا نرى التغطيات الفادحة والفاضحة في بعض وسائل الاعلام التي تطالب بحقوق الأطفال الذين ماتوا تحت النيران في مكان ما وتغض الطرف عن ذلك في مكان آخر على سبيل المثال، أو تطالب المؤسسات الدولية بتحقيق العدالة لطرف ما ثم تتهم نفس المؤسسات بالإنحياز إذا لم توافق تقاريرهذه المؤسسات أمزجة هذا الطرف أو ذاك !

إن التأسيس لإعلام يقترب من الموضوعية والحرفية ليس بالأمر اليسير وهو يرتبط بالثقافة والممارسات السائدة التي في مجملها تسوغ العنف بحق من تراه "خصمًا، فإنقاذ الثقافي من أزمته والإعلامي من تكراره سيكون الأرضية التي يتم فيها إنقاذ السياسي من خرابه الأيديولوجي، وبالتالي تهيئة العواملالموضوعية للحديث عن تنمية حضارية فاعلة ، من خلال تنمية مهارات تتيح للفرد تبني اللاعنف كموقف انساني؛ مع ما يتطلب ذلك من عدم تسويغ أيّ عنف، وتفكيك أيديولوجيا الإرهاب والكف عن تصوير الأعمال البطولية ، والتسويق للأشخاص .

كما أن الخروج عن دائرة المردودية المالية المباشرة لوسائل الاعلام إلى الوعي الذي يترجم عبر المصالح الإنسانية من الأهمية بمكان، فإن لم يضع القيمون في حسبانهم تلك المصالح الإنسانية ومصلحة البيئة الطبيعية في أولى الأوليات فإن الأمور ستنحى إلى تكريس مزيد من الخراب والانقسام .

فوسائل الاعلام تتمتع بقدرة عالية على شحن الطاقات وتفعيلها، وهو دور متعدد في وجه ومزدوج في آن، فإمَّا أن تتحول الشاشة إلى أداة فاعلة لبناء الإنسان ومن ثم خدمة مشاريع التنمية البشرية، أوتتحول إلى أداة تفتيت مدَّمرة بتغذية العنف والعصبيات وترويج صورة الإنسان المستهلك، وتصبح شاشة "القمامة ومواقع "التفاهة" أداة تسويق لثقافة طاعة الأيديولوجيات المتصارعة وتكريس العنف وتسويق الاستهلاك .