أطلق أحد المثقفين العراقيين قبل فترة مشروعاً بعنوان ((عصر النهضة العراقي))، ومع احترامي لشخص هذا المثقف وتقديري لجهده وافتراضي لحُسن نواياه، إلا أنني أرى بأن الفكرة غير واقعية ولن تنفع المجتمع العراقي، لأنها لن تنهض بوعيه سوى على الورق ومواقع التواصل الاجتماعي بل هي ستضره، أولاً لأنها ستمنحه شعور زائف بالاطمئنان بدل القلق الذي يفترض أن يعيشه على واقعه البائس،وبالتالي ستعمق حالة الخدر التي يعيشها منذ عقود! وثانياً كونها ستديم حالة وَهم يعيشها هذا المجتمع بأنه عظيم ووريث حضارات عظيمة (لا صلة له بها جينياً ولا تراكمياً)، وأنه ضحية مؤامرة (وهو المتآمر على نفسه وبلده)، وأنه سينهض كالعنقاء (رغم أنه تجسيد للنعامة)، وما الى ذلك من كلام إنشائي يرفض المثقف العرقي تجاوزه الى حيز الواقع!

يبني الأستاذ الفاضل صاحب المشروع فكرته على أن العراقيين لديهم مجموعة من المبدعين بالعديد من مجالات الحياة، كالفن والثقافة والعلوم، بعضهم موجود في العراق والبعض الآخر في المهجر، يمثلون ويمكن أن يصنعوا النهضة العراقية، وهو كلام لا أساس منطقي له لأنه يغفل حقيقة هامة وأساسية بأن النهضة تصنعها مجتمعات لا أفراد، وأن العراقيين ممكن أن يكونوا مبدعين كأفراد حالهم حال غيرهم، لكن الواقع والتجربة أثبتا وبأدلة قاطعة لا تلبس التأويل أنهم فاشلين كمجموع وشعب ومجتمع، لأنهم لا يمتلكون وعي وثقافة تقبل الآخر، وبالتالي العمل والأبداع الجماعي الذي ينهض بوعي الأمم وثقافتها واقتصادها ومجمل واقعها. كما يغفل حقيقة أن النهضة ليست إبداع فني وثقافي بل تعامل إنساني يؤسسلثقافة مجتمعية متكاملة، والكثير من المبدعين العراقيين لا خلاف على إبداعهم، لكن تواصُلنا مع بعضهم في العالم الافتراضي، وتعامُلنا مع بعضهم الآخر في عالم الواقع، كشف لنا أن نسبة ليست بالقليلة منهم فشِلت بأن تعطينا مثلاً أعلى بعمق الوعي والتواضع، وبقيتحبيسة أفكارها الاديولوجية وأبراجها العاجية وأجيالها المجتمعية، ولم تتجاوز التنظير الى التنوير، كما صُدِمنا مؤخراً بمواقف الكثيرين منهم تجاه قضايا إنسانية ومبدأيه، كقضية حَشد المليشياتمثلاً، التي سايرها وسار في ركبها الكثيرون لأسباب باتت معروفة،منها مناطقية ومنها وصولية، ومنها حرص الغالبية منهم على مغازلة الشارع العراقي ليصفق لهم خوفاً مِن أن يَنفَضّ عنهم بحال لم يؤيدوا الحشد وإن على استحياء، حالهم كحال رجال الدين الذينيخشون قول الحقيقة في ما يتعلق بخزعبلات الدين، حتى لا يَنفَضّ عنهم الناس ويستمرّوا بتقليدهم وإتباعهم، لأنها باتت مقدسة بالنسبة إليهم، وبالتالي تسبب هؤلاء المثقفين بنكسة للواقع العراقي بدل النهضة، بعد أن تخلوا عن واجبهم بل وقصروا به بأن هبطوا الى و بوعي مجتمعهم بدل أن ينهضوا ويرتقوا به، فمالهم وما للنهضة العراقية!!

إذا أردنا أن نتحدث عن نهضة عراقية، فإن نهضة العراق الحقيقية والوحيدة، والتي غالباً لن تتكرر لعدم توفر الظروف الموضوعية لتكرارها، قد تحققت في زمن وعلى يد فيصل الأول ورفاقه كنوري باشا، وفيصل لم يكن مبدعاً في مجال الفن والثقافة والبحث العلمي، بل كان أميراً وفارساً حجازياً أمتلك وعياً ألهمه مشروعاً نهضوياً أسس به دولة وشعب من العدم وسار بهما في طريق الرقي والتمدن، ونهضته هي التي خلقت ووفرت الأجواء ومهدت الطريق لإبداع مَن يتحدث عنهم صاحب المشروع، أو مَن سبقوهم خلال العقود الماضية، وحينما تحقق ذلك كان المبدعون بمقدمة من وأدَ هذه النهضة لأنهم افتقروا لعمق الوعي، فاطِّلاعهم على إبداع أقرانهم من مفكري وفناني وأدباء العالم قولَب أفكارهم بدل أن يحررها، وجعلها منغلقة على آيديولوجيات شيوعية وقومية وإسلامية شمولية، توهّموها مشاريع نهضوية وحاولوا تقليدها ونقلها لبلدانهم، وساروا خلفها كأتباع بدلاً من أن يحافظوا على مشروعهم النهضوي الليبرالي العراقي، فبات حالهم وحال شعوبهم كالتي "لا حظت برجيلها ولا بسيد علي"، فهل اتعظ أو سيَتّعِظ المثقف والمبدع العراقي من كل ما حل ببلاده من خراب، كان هو أحد أسبابه!؟ بالتأكيد لا، لأنه يفتقر الى ثقافة مراجعة النفس والاعتراف بالخطأ، بالتالي لن يكتشف أخطاءه يوماً أو يعود عنها، بل سيستمر بها وبتدمير بلاده وتجهيل مجتمعه لحين حصول معجزة تغَيّره، في زمن لم تعد فيه معجزات.