لا يبقى للإنسان بعد رحيله سوى الذكرى ، كان رحيل المغفور له بإذن الله رئيس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان صدمة للجميع ، كان ذلك في الثاني من نوفمبر 2004، رأيت بعيني --وكنت أعمل في تلفزيون أبو ظبي في ذلك الحين – رأيت البكاء والدموع في عيون المقيمين ضغارا وكبارا ، حينها أدركت المكانة الكبيرة التي حفرها الرجل في قلوب البشر على اختلاف جنسياتهم ، مات زايد وبقيت أعماله وأفعاله خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، في هذا العام تحتفل الإمارات بمئوية زايد ، فقد ولد في ثصر الحصن بأبوظبي عام 1918 ومنذ ميلاده ثم توليه حكم أبوظبي 1966 ثم وفاته قبل أربعة عشر عاما ، ترك زايد أعمالا تبقى علامات بارزة في تاريخ دولة الإمارات.

كان الشيخ زايد يؤمن بالوحدة ، وكان أول من نادى بالاتحاد بعد إعلان بريطانيا الجلاء عن الإمارات في يناير 1968 ، فعمل على إقامة كيان سياسي موحد له كلمة قوية ومسموعة في المحافل الدولية، وكان اجتماع (السمحة) اللبنة الأولى لبناء الاتحاد ، وفي 1969 انتخب رئيسًا للاتحاد التساعي الذي ضم الإمارات السبع وقطر والبحرين ، انسحبت الأخيرتين ، بعدها تم الإعلان عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في 2 ديسمبر 1971 بست إمارات انضمت لها رأس الخيمة في 10 فبراير 1972 ، وكان لزايد دور كبير في توحيد الدولة مع الراحل حاكم دبي الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وتحقق لهم ذلك في 2 ديسمبر 1971 وأسس أول فيدرالية عربية حديثة، وانتخب الشيخ زايد رئيسًا للاتحاد.

ساند الشيخ زايد مصر وسوريا في حرب 1973 ضد إسرائيل من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة في فلسطين، وقام بقطع إمدادات النفط عن الغرب، وقال مقولته الشهيرة «إن النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي»، بعد حرب أكتوبر كانت وقفة الشيخ زايد التي لا تنسى لمساعدة مصر على إعادة إعمار مدن قناة السويس (السويس والإسماعيلية وبور سعيد) التي دُمرت في العدوان الإسرائيلي عليها عام 67 ، وعندما قاطع العرب مصر بعد قمة بغداد بسبب اتفاقية كامب ديفيد، قال مقولته الشهيرة: «لا يمكن أن يكون للأمة العربية وجود دون مصر، كما أن مصر لا يمكنها بأي حال أن تستغنى عن الأمة العربية».

كان الشيخ زايد يومن بأن وحدة العرب صمام آمان يحميهم من الأطماع الخارجية ، وقد عمل مع أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح على إنشاء مجلس التعاون الخليجي فاستضافت أبوظبي في 25 مايو 1981 أول اجتماع قمة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي.

خلال فترة حكمه حول الشيخ زايد الإمارات من صحراء جرداء إلى جنة خضراء ، وفي مدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي أصدر قرارا يقضي بإعادة النظر في ملكية المياه وجعلها على ندرتها متوفرة للجميع وتسخيرها لزيادة المساحات الزراعية حتى أمتدتالمساحات الخضراء إلى الإمارات السبع .

تمكّن الشيخ زايد من تحقيق إصلاحات واسعة، في التعليم،والرعاية الصحية، والإسكان، وتطوير المدن، وبناء مؤسسات الدولة الاتحادية، وتحديث الجيش ، وباتت الإمارات الآن من أرقي بلاد العالم في تقديم الخدمات إن لم تكن الأفضل على الإطلاق من خلال ما يعرف بالحكومة الالكترونية ، حتى أن كل المعاملات تتم اون لاين في نظام إداري بديع يوفر الوقت والجهد ويحترم أدمية البشر.

اعتمد الشيخ زايد نهجا جديدا في العلاقات الدولية يتسم بالحكمة والاعتدال، والتوازن، ومناصرة الحق والعدل، وتغليب لغة الحوار والتفاهم في معالجة جميع القضايا، في مسألة الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى التي تحتلها إيران ، دعا الشيخ زايد الحكومة الإيرانية إلى تقديم ما لديها من براهين على ملكية الجزر الثلاث ، وتقدم الإمارات براهينها لرؤية صاحب الحق، أو يحتكم البلدان إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي. وهو الموقف الثابت للإمارات حتى الآن .

رفض الشيخ زايد حضور الإمارات القمة الاقتصادية في الدوحة 1997 بحضور إسرائيل وقال إن أكثر الدول العربية تعارض الاجتماع مع إسرائيل المحتلة لأراض عربية ، وقال إذا نفرنا من شيء ننفر منه جميعاً، وإذا رضينا نرضى جميعاً ، لقد كان الشيخ زايد كنزا للعرب ، ولقب بحكيم العرب ، وعم خيره بلدان العالم شرقها وغربها شمالها وجنوبها ، لذا لا عجب أن يلقبه الإماراتيون والعرب بأنه " زايد الخير".

رحل الشيخ زايد وترك دولة باتت الأولى عربيا في مؤشرات السعادة ، وربما من أنجح الدول العربية ، دخلها عالٍ، وشعبها سعيد ، والكل راضٍ، ومن يعش على أرض الإمارات يلمس ذلك ، لقد وصف القاريء الشهير الشيخ محمود الطبلاوي وكان من ضيوف الشيخ زايد لاحياء ليالي رمضان وصف الإمارات بأنها جنة الله في أرضه . 

كان الشيخ زايد صريحاً لا يجامل أو يحابي أحدا . كان محبا للجميع ، ذات مرة كان موكبه يسير في أبوظبي ، ورأى حافلة تقل تلاميذ مدارس صغار ، فسأل مرافقيه ، قالوا له هم أبناء الوافدين يدرسون في الفترة المسائية ، تغير لون وجهه غضبا، وامر بأن يعود هؤلاء التلاميذ الصغار للدراسة في الصباح وتلغى الفترة المسائية ، كان يرى أن الثروة التي منحها الله لبلاده إنما هي نعمة يجب أن يستفيد منها الجميع لافرق عنده بين مواطن ووافد .

كان لسان الشيخ زايد يفيض بما في قلبه، لا يخشى في الله لومة لائم ، كان يدرك جيدا انحياز الدول الكبرى لإسرائيل على حساب العرب . كان زعيماً وطنياً من نوع نادر، كان يتمتع بحضور لافت وزعامة متميزة، قل أن يجود الزمان بمثله.