اتخذت منظمة" إيتا "الانفصالية أخيرا ،قرارا بحل نفسها وتفكيك سائر أجهزتها وهياكلها السياسية والعسكرية ؛ بعد أن روعت إسبانيا قرابة ستبن عاما ،سببت خلالها آلاما ونكبات لعشرات العائلات الإسبانية ، دون تمييز بين العسكريين والمدنيين.

وغالبا ما اصطدم العنف السياسي الأعمى، في التجارب التاريخية ،بجدران الرفض الشعبي، لاعتبارات دينية وسياسية وأخلاقية ، ولم يتمكن في غالب الأحوال، من كسب تأييد إلا تحت تهديد السلاح من طرف "الثوار" والانتقام من السكان وقد باتوا رهائن في قبضتهم ،مثلما جرى في إقليم "الباسك" حيث فرض التنظيم الإرهابي ، مكوسا وإتاوات على الساكنة لجمع الدعم المالي للحركة التي ارتدت أقنعة ثورة تحرير الإقليم من قبضة الاستعمار الممثل في الدولة الإسبانية. .

لقد ظهرت علامات الانهيار في صف الانفصاليين، منذ حوالي عقد من الزمان . بعثوا رسائل مشفرة إلى السلطات الإسبانية ،عبر وسائل مختلفة . لمحوا إلى الرغبة في إنهاء المواجهة ؛ لكن الحيل والمناورات، لاقت رفضا قاطعا ومعارضة من الحكومات الإسبانية المتعاقبة ، من الحزبين الكبيرين: الشعبي المحافظ والاشتراكي اليساري . اشترطوا دائما إلقاء الخارجين على القانون السلاح أولا ، دون قيد أو طمع في جني مكاسب سياسية مقابل خطوتهم، وأن يعترفوا صراحة بجرمهم الكبير في حق الشعب الإسباني ،بطلب المغفرة والصفح منه عن الأذى الذي تسبب فيه الإرهاب الأعمى للمئات من الآمنين .

والحقيقة أنه ما كان لحركة دموية شرسة مثل "إيتا" تزعم التعبير عن المطامح العميقة لسكان إقليم "الباسك" في إسبانيا وفرنسا لإقامة دولة مستقلة على غرار الحركات الانفصالية في أغلب البلدان؛ ما كان لها أن تسرع بانهيارها الذاتي، لولا صمود الحكومات المتعاقبة في مدريد، ورفضها أساليب الابتزاز والخداع التي جربتها المنظمة الإرهابية مرات ومرات ،حتى خيل، في زمن لبعض المشككين أن "مدريد" ستضطر إلى الاستسلام والخضوع لابتزاز الانفصاليين.

لكن فصول المواجهة المريرة والمحتدمة بين قوات الأمن الاسباني وعناصر العصابات المقنعة التي تضرب في الخفاء ؛ رسخت (المواجهة) في الطبقة السياسية قناعة الرفض المطلق لأي حوار مع الإرهابيين ،مهما طالت المعركة واشتدت الخسائر .

كثيرة هي المكاسب التي حققتها الحكومات نتيجة ثباتها على الموقف حيال الإرهابيين ،أهمها تماسك الحلف التاريخي بين الحزبين الكبيرين مهما تغير موقعهما في السلطة أو المعارضة

اختلف الاشتراكيون والمحافظون كثيرا ،بخصوص السياسات الاقتصادية والاجتماعية ، لارتباطها بالخلفية الأيديولوجية لكليهما ؛ لكن الإصرار على شن الحرب بدون هوادة ضد الإرهاب ظل قويا باختلاف لون السلطة التنفيذية

حاول الانفصاليون دغدغة مشاعر الاشتراكيين الإسبان، ملمحين إلى أمكانية الاتفاق معهم .فشلت محاولات "إيتا" المتكررة ولم يسقط الاشتراكيون في الفخ المنصوب ، بل تمسكوا بالحلف المقدس مع غريمهم الحزب الشعبي ؛ ما ساهم كذلك في رفع كفاءة وثقة الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تعاونت مع الحكومات بإخلاص ،لكسر شوكة الإرهاب . لم يكن الثمن بسيطا .

أكيد أن عوامل أخرى أفضت إلى نهاية "إيتا" المحتومة، ضمنها مستوى التنسيق الأمني مع فرنسا التي اتخذ الفرع الإسباني في "إيتا" أراضيها مسرحا لأنشطته الهدامة ، قبل أن تقتنع با ريس، بالحجج والأدلة، بأن الإرهاب ملة ومنظومة واحدة .

التغيير في الموقف الفرنسي، مكن عناصر الأمن السري الإسباني من ملاحقة أعضاء المنظمة "الباسكية" ما أسفر عن سقوط رؤوسها الكبيرة وتعرية خلاياها النائمة فوق التراب الفرنسي.

هل ستتمكن "إيتا" من النهوض على قديمها وتجاوز الشعور بالإحباط جراء هزيمتها المنكرة ؟ لقد استسلمت قبلها حركات تقاسمت معها ذات المنطقات الأيديولوجية ، وخضعت في الأخير لمنطق الواقع والتاريخ فتخلت عن العنف للانخراط في دورة الحياة الديمقراطية.

كان الجيش الجمهوري الأيرلندي السباق ، تبعته بعد سنوات حركة العصيان المسلح في كولومبيا. لقد سقط النموذجان الكبيران.

فأي مآل ينتظر "إيتا"لما يظهر أعضاؤها بوجه سافر :كيف سيتم إدماجهم في الحياة السياسية والتغلب على الصراعات الداخلية التي واجهها التنظيم قبل الإقدام على تنفيذ الإعدام الذاتي في منظمتهم؟ ما رد فعل مسجونين يقضون عقوبات ممددة في السجون الإسبانية ؟

لقد رفض رئيس الحكومة الإسبانية ، ماريانو راخوي، منح أي عفو أو صفح عن الذين اقترفوا جرائم دموية .وهو في موقفه مدعوم بتأييد الطبقة السياسية وقطاعات عريضة من الرأي العام الإسباني ، باستثناء القوميين المتصلبين في إقليمي الباسك وكاتالونيا. هؤلاء يتمنون تفتيت كيان الدولة الإسبانية

في هذا السياق ،تحضر المقارنة بين نهاية "إيتا "و"جبهة البوليساريو" الساعية لانفصال الصحراء عن المغرب .

تخلص "البوليساريو" من الورطة يبدو ممكنا وأسهل عليها من "إيتا" إذ لا وجود لثأر عميق بين الجبهة المغرب مثل الذي باعد بين" إيتا" وإسبانيا ، ما قد يسهل الوئام النهائي بين الجانين، استمرارا لتجربة وقف إطلاق النار الذي أطلق مسلسل تسوية سلمية ترعاها الأمم المتحدة. 

ودون استحضار العلامات الفارقة بين التوجهين الانفصاليين ، فالمؤكد إنهما يقفان على أرضية أيديولوجية متشابهة فقدت بريقها الثوري بتراجع اليسار في العالم .

أدركت "إيتا" استحالة النصر وتخلصت من الوهم الثوري للانتقال إلى طور جديد من الصراع السياسي مع الدولة الإسبانية . 

ليس مطلوبا من "البوليساريو" الاعتراف بالهزيمة العسكرية المنكرة ،بل ممارسة نقد ذاتي عبر نقاش حر داخل المخيمات.

إذا أقدمت مثل نظيرتها " إيتا " على الخطوة الجبارة وحطمت جدار التردد ، فإنها ستخرج بمكاسب سياسية أهم من التي قبلتها " إيتا" أي العيش في ظل نظام حكم ذاتي موسع يتمتع به إقليم الباسك . مع فارق أن الدولة المغربية مستعدة للصفح تطبيقا لمقولة "الوطن غفور رحيم ".