أظهرت أراء المراقبين للسياسات في الشرق الأوسط انقسامًا واضحًا حول فوز رجب طيب أردوغان في سباق الرئاسة بتركيّا، فهناك من يرى أن الانتخابات كشفت عن قدرة أردوغان على البقاء والاستمرار، وهو ما يعكس رغبة الأغلبية التركية في الحفاظ على الاستقرار والنمو الإقتصادي المنشود. وهناك من يرى ان في فوزه تكريس لصورة الزعيم الأوحد الذي يشكل فوزه نواة تأسيسية لديكتاتورية ناشئة تلوح في الأفق .

وقد يبدو كلا الرأيين صائبًا لا سيما عند تحليل نقاط الضعف والقوة التي برزت في تشكيل الحكومة وتوزيع الوزارات التي أعقبت هذا الفوز. و في قراءة تقترب من الموضوعية لا بدّ من التوقف مليًّا عند نتائج الانتخابات البرلمانية التي تعكس بشكل واضح أن الثقة التي أولاها الشعب التركي مشروطة؛ حيث أظهرت التراجع الملموس لحزب العدالة والتنمية عبر فقدانه الأغلبية البرلمانية.

وفي سياق المعطيات لابد من تسليط الضوء على محاور عدة أهمها :

أولا: أن هذه الانتخابات الأولى التي تعقب التعديلات الدستورية التي تنقل البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي، مع ما يتضمن ذلك من اختبار فعلي لنجاح هذه التجربة أو فشلها وهو ما سيكشف المستقبل عنه و لا يمكن التكهن به، فلكل من النظامين ميزات جيدة وثغرات قاتلة، حيث يرى كثيرون ان النظام الرئاسي سيؤدي إلى تفرد الزعيم الأوحد وتفريخ الديكتاتورية مالم تكن هناك ضوابط واضحة تضمن المسار الديموقراطي و التعددية السياسية التي حافظت عليها تركية منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي .

ثانيا : ان هذه أول انتخابات تشمل انتخابات برلمانية ورئاسية في وقت واحد، في مفارقة واضحة بالنتائج، فعلى الرغم من فوز اردوغان في الرئاسة فإن حزب العدالة والتنمية خسر أغلبيته في المقاعد البرلمانية وهذا يشيرالى ان من يختلفون مع سياسات حزبه قد يرون أن سياساته أنعشت تركيا اقتصاديا ، في ظل تراجع واضح لشعبية سياسة اردوغان تجاه قضايا الشرق الأوسط القائمة على تصدير "النموذج التركي".

ثالثُا : أن المشهد البرلماني زاد تعقيدا اثر زيادة عدد النواب من 550 إلى 600 حيث أعيد تقسيم الدوائر الانتخابية وطرق احتساب الأصوات، وفق القانون الجديد المنبني على التعديلات الدستورية، الذي أقر حق تشكيل التحالفات الانتخابية بين الأحزاب وهو ما سهل التحالف الانتخابي بين حزبي العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، باسم تحالف الشعب الذي نجح في تأمين أغلبية قاربت 340 من المقاعد النيابية ، بينما لم تستطع أحزاب تحالف الأمة الأربعة تحقيق ما يزيد عن 192 من المقاعد.

رابعًا: أن الانتخابات اشتملت على عدد من المرشحين يمثلون توجهات سياسية متنوعة الأمر الذي قلص الفرص الفعلية لفوز قوي لمرشح يقابل أردوغان فقد كان معارضوه الذين نافسوه خمسة أقواهم كان محرم إينجه عن الحزب الجمهوري، الذي يوصف بوريث أتاتورك، وحصل على نسبة 30.7.% من مجموع الأصوات وربما كان بإمكانه الفوز لو أن بقية القوى المعارضة التفت حوله، ولكن هذا لم يحصل في ظل التشظيات التي قسمت المعارضة الى مرشحين عدة منهم قرة ملا أوغلو المرشح عن حزب السعادة ذي التوجه الإسلامي؛ ودوغو برنشك، المرشح عن حزب الوطن الصغير، ذي التوجه الكمالي اليساري؛ و ميرال إكشنر، مرشحة عن الحزب الجيد، الذي انبثق عن انشقاق في حزب الحركة القومية؛ وصلاح الدين دمرطاش، مرشح حزب الشعوب الديمقراطية، ذي التوجه القومي الكردي، الذي خاض الانتخابات من السجن.

خامسًا : أن هذه الانتخابات أجريت وسط اتهامات اقليمية ودولية بانتهاكات تتعلق بحرية الصحافة واستقلال القضاء، حيث أصدرت السلطات التركية مذكرات اعتقال بحق 42 صحافيا واعلاميا في إطار التحقيقات في محاولة الانقلاب منتصف تموز يوليو الماضي ، كما شنت حملة الاعتقالات طالت عاملين في مختلف مرافق ومؤسسات الدولة، من دون أدلة تثبت تورطهم في المحاولة،كما علّقت الحكومة مهام 15 ألف موظف من وزارة التعليم وحدها، وقالت إنها ستباشر التحقيق معهم للاشتباه في تورطهم بمحاولة الانقلاب، فيما طلب مجلس التعليم الأعلى من أكثر من 1500 عميد في الجامعات الحكومية والخاصة تقديم استقالاتهم ؛ ويرى المراقبون أن ذلك من شأنه أن يقوض اي معارضة فعلية ممكن أن تترجمها هذه الانتخابات .

سَادسًا: جاءت هذه الانتخابات وفق حذر دولي وإقليمي تجاه السياسة الخارجية للحكومة التركية، لا سيما فيما يتعلق بالشأن السوري وتطبيق الاتفاق حول منبج والتزام تركيا في حلف الناتو، علاوة على المسار السياسي الذي تتبناه تركيا مع دول الجوار الإقليمي والعربي في ضوء التوترات والتوازنات الإستراتيجية المحتملة بين ايران ودول الخليج العربي، حيث ترى معظم الدول الغربية أن سياسة تركيا غير باعثة على الإطمئنان ما لم تكشف بوضوح عن مسارها السياسي الذي ستتبناه خلال الأعوام الخمسة المقبلة .

ويمكن أن نرصد ردود فعل دولية متباينة حول هذا الفوز ؛ حيث أظهرت روسيا وايران ترحيبا مباشرا وفوريا ، فقد جاء على لسان بوتن أن "نتائج الانتخابات دليل واضح على النفوذ السياسي الكبير لأردوغان" وان في ذلك "تعزيز موقف البلاد على صعيد السياسة الخارجية". كما توجه روحاني ب"أصدق التهاني " . 

أما الدول الغربية فقد ابدت قلقها ، حيث قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز عقب الفوز: "نحن ندعو تركيا إلى القيام بخطوات لتعزيز الديمقراطية ومواصلة التقدم بحل المشاكل في العلاقات الثنائية"؛ بينما اكتفت بريطانيا بالاعلان عبر المتحدث باسم رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي "بأن البلدين لديهما مجموعة واسعة من المصالح المشتركة لا سيما أمن المنطقة ومكافحة الإرهاب والاستثمارات والتجارة الثنائية." 

أما السويد فقد عبرت عن قلقها المباشر على الديموقراطية ووضع الأكراد حيث قالت وزيرة خارجية السويد مارغو والستروم أن "تركيا ليست في موقع إعطاء دول أخرى دروسا في الديمقراطية في وقت يقبع فيه زعيم المعارضة في السجن منذ فترة طويلة" مضيفة إن "القضية الكردية والتطورات الاقتصادية في تركيا تطرح تحديا جديا. كنا قلقين حيال طريقة تطور تركيا في الآونة الاخيرة، كان الأمر مثيرا للقلق". 

أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فقد كتبت لأردوغان: "كل الأسباب تجعلنا نرغب أن نكون شريكا لتركيا مستقرة وتعددية تعمد إلى تعزيز المشاركة الديمقراطية وحماية سيادة القانون".

 

أخيرًا ، لا شك ان هناك تحديات حقيقية ستواجه أردوغان سواء على المستوى الداخلي لتحقيق الرفاه الإقتصادي وتنفيذ وعوده الإنتخابية ، كما على مستوى استراتيجيات السياسة الخارجية لتركيا والخطوات التي ستتخذها فيما يتعلق بالوضع السوري و العلاقة مع الأكراد دون ان يؤدي ذلك في النهاية إلى صراع داخل حلف الناتو نفسه.

فهل سيخاطر أردوغان بمستقبل تركيا وإلى أين سيتجه وسط المحاور الدولية والإقليمية ؟! وهل سينحى نحو الديكتاتورية تجاه شعبه أم سيعمل على ترسيخ التعددية ؟! وهل سيتمكن الشعب التركي من الحفاظ على مكتسيات العلمانية والحرية والتعددية و مبدأ محاسبة الفاسدين؟! اسئلة كثيرة ومخاوف حقيقية لا يمكن الجزم بها أو الإجابة عنها حتى تتوضح الصورة في المستقبل لما ستؤول اليه الأمور .