ما زالت حكومة لبنان في خبر كان. ليس الكلام من عندي، بل من عند نبيه بري، رئيس البرلمان. فهذا الرجل الذي يحكم المجلس النيابي اللبناني منذ عام 1992 يعرف ما يجري في كواليس تأليف أول حكومة فعلية في عهد الرئيس اللبناني "القوي" ميشال عون. لكن، ثمة من يسأل: إن كان تشكيل حكومة لبنانية اليوم متعثرًا إلى هذه الدرجة، فلم لا يعتذر الرئيس المكلف سعد الحريري عن تأليفها، ما دام يصطدم في كل صباح بعقدةا جديدة، وما دام عاجزًا عن قول الكلام المباح أصلًا؟
لن يعتذر الحريري، لأن المطلوب اليوم ألا يعتذر الحريري. كان مطلوبًا منذ أول يوم جرت فيه الاستشارات النيابية في قصر بعبدا لتسمية رئيس مكلف تشكيل الحكومة أن يكون الحريري هو الرئيس، حتى أن بعض أصحاب النوايا الحسنة جدًا من اللبنانيين قال في حينه إن حزب الله والزمر عابرة الطوائف التي يتحكم بلجامها لا تريد إلا الحريري رئيسًا للحكومة، لأنه "الزعيم السني الأقوى".
لكن، نظرة سريعة إلى نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة تبيّن حتى للجاهل في الأمور اللبنانية أن الحريري ليس الأقوى اليوم، أو كان الأقوى وخسر العديد من مقاعده النيابية لصالح سنّة آخرين، منهم من يعاديه، ومنهم من يهادنه إلى حين، ومنهم من يصادقه لغاية في نفس يعقوب. فما سرّ تمسك حزب الله وأترابه بالحريري رئيسًا للحكومة، حتى اللحظة؟
منذ ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، كان الميزان في سورية يميل سريعًا وبوضوح لصالح النظام السوري، بتورّط مباشر روسي – إيراني، وأحيانًا أميركي. وكان جليًا أن الأمور تسير في اتجاه إعادة نفخ الحياة في شرايين هذا النظام عربيًا ودوليًا، تحت عنوان "من تفضلون: الدولة أو تنظيم الدولة؟". من هذا المنطلق، أراد المنتصرون في سورية، وفي مقدمهم حزب الله، أن يكون الحريري هو نفسه رئيس السلطة التنفيذية في لبنان حين يأتي زمن إصلاح العلاقات الرسمية مع النظام السوري.
فالحريري هو من قال يومًا إنه لن يعود إلى دمشق إلا حاطًا في مطارها، أيام توسّم خيرًا في الثورة السورية. وهو من اتهمه النظام السوري بإمداد بعض الثوار السوريين بالسلاح والمؤن. وهو من تتهم المحكمة الدولية رأس النظام السوري بقتل والده رفيق الحريري في متفجرة 14 فبراير 2005. وهو من يختفي عن الأنظار في كل مناسبة رسمية لبنانية، حين يطل السفير السوري، تفاديًا لمصافحة لا يريدها. لذلك، المطلوب أن يكون هو نفسه من يذهب إلى الشام مع الذاهبين، عربًا وعجمًا، ليصالحوا النظام السوري.
من وراء الحريري، المطلوب إيرانيًا أن يكون الحريري اللبناني السعودي من يصالح سورية "المنتصرة على المؤامرة الكونية"، ليكون ذلك هدفًا إيرانيًا إقليميًا في شباك السعودية، تضيفه إلى أهداف أخرى تريد تسجيلها، في سورية نفسها وفي اليمن والبحرين وغير ذلك من ساحات النزال العربي – الفارسي.
كان ذلك واضحًا. وخير من استشرفه كان وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي الذي يناصب النظام السوري العداء لسبب مشابه، فالسوريون قتلوا أباه كمال جنبلاط في 16 مارس 1977، وهو من انتظر طويلًا على ضفة النهر مرور جثة عدوه.
أدرك جنبلاط أن الآتي ليس في صالحه، بل في صالح النظام السوري المراد تعويمه، فآثر الخروج من الحياة السياسية اللبنانية المباشرة، والبقاء زعيمًا في الظل، كيما تضطره المتغيرات السياسية الإقليمية إلى مصافحة رئيس النظام السوري، مع أن لجنبلاط سجل طويل في التراجع عن مواقف يقفها، وفي المهادنة. فهو يتقن فن اللعبة السياسية اللبنانية، وله فيها نبيه بري ظهيرًا دائمًا وحليفًا قويًا. فكان أن أطلق ابنه ووريث عرشه تيمور في الساحة السياسية؛ فإن كان لا بد من تجرّع كأس مصالحة النظام السوري، سيكون هو بعيدًا، أو مبتعدًا، تاركًا لابنه هذا الخيار، علمًا أن بيت جنبلاط في المزة الدمشقية قد رُمّم بعد أن أخلته الاستخبارات السورية، وهي التي صادرته بسبب نصرة جنبلاط للثورة السورية.
ثمة إجماع على أن سورية التي كانت قبل مارس 2011 لن تعود. ربما. لكن ألم يعرف الحريري بعدُ أن المطلوب إرغامه على خطوات لا مفر منها متى وصل الانفتاح العربي المتسارع على النظام السوري إلى تسوية يصير فيها عدو الأمس صديق اليوم؟ يعرف ذلك، فلم يستمر في هذا السيناريو الداكن؟