انها الدول التي يضعها قدرها التاريخي وتشتتها الديمغرافي في موضع وسطي بين طرفي نزاع او بين عملاقين دوليين يتنازعان في صراع دولي. انها ايضا دول يعاني الفرد فيها من تعدد الولاءات غير المحسوم والمتراكم عبر قضايا التاريخ والدين والايديولوجيا غير المحسومة.

دول التماس موجودة عبر التاريخ ولكن ملامحها الواضحة ودورها في الصراع برز في القارة الاوروبية ابان الحرب العالمية الثانية وتحديداً اغلب دول اوروبا الوسطى التي اضحت وسط نيران ذلك الصراع العالمي.

بعض هذه الدول تحالفت مع المانيا النازية مجبرة او مختارة كما هو حال النمسا والمجر وكرواتيا، وبعضها استسلمت سريعاً لهتلر مثل جيكوسلوفاكيا. اما بولندا فقد ضاقت الامرين في صراع ارادات دولية متعددة اراد بولندا واحدة ولكنها ممزقة الولاء.

المؤرخون يتفقون على ان بولندا عانت عبر التاريخ من موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي وضعها في قلب الصراع في القارة الاوروبية؛ بولندا كانت لها معاهدة استراتيجة مع الاتحاد السوفيتي ولكن قواها السياسية والعسكرية كانت واقعة ضمن النفوذ والتاثير الالماني المباشر ولذلك عندما حدثت عملية غزو بولندا انقض الغريمان الالماني والروسي على ساحتها في عام 1939 فتحولت بولندا الى الشرارة التي انطلقت منها الحرب الكونية الثانية و اختفت ملامحها كدولة على اثر تقاسمها بين السوفييت والالمان.

وحتى عندما عادت بعد انتهاء الحرب دولة واحدة مستقلة استمر انقسام بولندا النفسي بين ولاءات الشرق والغرب وبين احداث التاريخ وجراحه التي لم تعالج جذرياً ولايزال صراع الهوية يحطم وحدتها الوطنية ويضعف روح المواطنة والانتماء فيها.

بولندا اليوم دولة تماس حائرة بين الولاءات الغربية او الشرقية وكل من هذه الولاءات تدعمها مجموعة من السياسيين الفاسدين الذين يتلقون الدعم من هذه القوة او تلك. والشعب البولندي ذاته جزء من هذه الفوضى فهو تارة يدعم هذا السياسي او ذلك الحزب ويجعله في مصاف الزعامة ثم سرعان ما يطيح به ويلقي به في اسفل السافلين.

الشرق الاوسط بدوره يعد تجمعا كبيرا لدول التماس وهي الى حد كبير تشبه دول اوربا الوسطى في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليس فقط من حيث ضغط الصراع المتعدد الاطراف للقوى الاقليمية والدولية بل وحتى من حيث تعدد الولاءات السياسية والدينية لشعوب الشرق الاوسط. وكثيراً ما كان يطلق تسمية دول التماس على دول عربية مجاورة لاسرائيل باعتبارها تتاثر بمجريات الصراع المباشر ولكن هذه التسمية كانت تدل على التماس الجغرافي وليس فعل التاثير والتاثر العقائدي او الايدولوجي.

مؤتمر الشرق الاوسط الذي انعقد مؤخراً في العاصمة البولندية (وارسو) الذي ترعاه الولايات المتحدة، يحاول ان يعيد صياغة منظومة الصراع في الشرق الاوسط ويعلن ان رياح الصراع في المنطقة غيرت مساراتها وصارت تتجه شرقاً باتجاه عدو كبير الحجم والتاثير والعمق او ربما تجري عملية عملقته وتحويلة الى وحش منفلت وخارج منطقة الردع الدولي.

ايران تذكر العالم بالمانيا مطلع الحرب العالمية الثانية من حيث تضخم القوة العسكرية وقوة التاثير اليديولوجي الذي يقدم ايران كمرجع وحامي للقوى والحركات الشيعية في الشرق الاوسط وهي حركات راديكالية و في اغلبها ذات طبيعة ثورية مسلحة ترفع شعارات مضادة للغرب؛ وعليه تقدم ايران نفسها كعدو للولايات المتحدة وهي مرشح قوي للصراع الشرق الاوسطي القادم.

مؤتمرا (وارسو) يضع العراق كدولة تماس مثالية من حيث القدر الجغرافي الذي يحوله الى ساحة حرب مفتوحة الابعاد تصب فيها جميع مجريات الصراع في الشرق الاوسط . ولكن الجغرافية ليست العامل الوحيد الذي يجعل العراق دولة التماس في صراع الشرق الاوسط بل عوامل اشد وقعاً في مقدمتها ازمة الولاء والهوية الوطنية فالفرد العراقي ومنذ عام 2003&صارت تنعكس في منظومته الفكرية مجموعة متناقضة من التبعيات التي تغذيها حواضن الجهل والرجعية وسوء وتردي منظومة التعليم والثقافة الوطنية والمجتمعية. العامل الاخر هو الانقسام السياسي بين الزعماء السياسيين وصراعاتهم البينية وتبعيتهم المصلحية لمن يضمن بقائهم في الحكم ويسترعورة فسادهم المستشري، هذه النخبة السياسية التي خلقتها اخطاء السياسة الامريكية في العراق تتفاخراليوم بتبعيتها لايران وبعضها صار يجاهر العداء للولايات المتحدة في اداء سياسي احمق يجر العراق الى ان يكون ساحة حرب يكون اول المحترقين فيها تلك النخب السياسة الهشة ومليشيات المراهقين الذين تتلاعب بهم ايران.

اخيراً ولكي لا يتحول العراق الى بولندا الشرق الاوسط فان على جميع القوى الدولية والاقليمية ان تعي مسؤوليتها في حماية العراق من ان يتحول الى دولة تماس، ليس فقط لان اي صراع مقبل سوف يحطم العراق ويحوله الى دويلات صغيرة تتحول مستقبلا الى حواضن للتطرف والصراع ، بل لان دول التماس بحد ذاتها تقدم سبباً للصراع وتكون دائماً نقطة خلاف عميق وغير قابل للحل في مفاوضات السلام والتسوية.&

اما المستوى الشعبي فان العراق بات اليوم مطالب باجراء عملية شاملة لاعادة مناقشة الهوية والمواطنة وحسم الولاء الوطني والقضاء على كافة الولاءات الفرعية بل واعتبارها خيانة عظمى.يجب ان تتوقف عملية تقسيم الولاءات الايديولوجية والدينية والسياسية&&ويترسخ داخل كل عراقي ولاء للعراق فقط يعلو فوق كل عقيدة او مذهب.&

ان اعادة خلق الهوية وترسيخ (مبدأ العراق اولاً) ربما لن ينهي تبعية النخب السياسية العميق لايران ولكنه سوف يعمل على ازالة غطاء الشرعية الجماهيرية عن النخب الفاسدة وايضا ربما يجنب العراق مصير دول التماس المنقسمة الولاءات.

رئيسة الباحثين منتدى صنع السياسات- لندن

&