& & الأولوية البارزة للصين هي مصير علاقاتها مع الولايات المتحدة، لكن القيادة الصينية عكفت على حشد علاقات تجارية وعسكرية واستراتيجية و"حضارية" مع آسيا وأوروبا في اطار المنافسة الكبرى، الأميركية - الصينية. الأسبوع الماضي، أطلق الرئيس شي جين بينغ، الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، وفي مبادرة "حوار الحضارات الآسيوية" في مؤتمر كبير تحدّث فيه قادة دول آسيوية وأوروبية وشاركت فيه أبرز المؤسسات الفكرية في القارات الآسيوية والأوروبية والأفريقية التي دعاها الرئيس شي تأكيداً على أهمية أدوارها في مشروعه المهم له استراتيجياً وفي اطار "الحزام والطريق" الذي يحيي ويتعدى "طريق الحرير".&

برزت كلمة "الاحترام" في حديث المسؤولين الصينيين وكذلك تعبير "تجنّب الغرور" وبرز معهما حس "القوميّة" الصينية في مواجهة "الاستراتيجية الأمنية القومية" للرئيس دونالد ترامب ذات عنوان "أميركا أولاً" والتي صنّفت الصين في مقدّمة التهديدات للعظمة الأميركية واعتبرت الصين، وليس الإرهاب، الخطر الأوّل على مستقبل تموضع أميركا عالمياً.&

هذا الاندفاع نحو القوميّة الصينية أثارته إجراءات الرئيس الأميركي نحو الصين ضمن سياسة تلقى دعماً أميركياً واسعاً لأن دونالد ترامب يفاوض شي جين بينغ ليعدّل الموازين التجارية ويتخذ خطوات عقابية ضد شركات وتكنولوجيا صينية تهدّد الأمن القومي الأميركي. لكن الواقعية والبراغماتية أجبرت القيادة الصينية أن تحرص على الاستمرار في حياكة التفاهمات مع القيادة الأميركية لأن الأوضاع الداخلية في الصين تتطلب الصبر الاستراتيجي "ولأننا لسنا أقوياء بما يكفي بعد"، حسب تعبير أحد الأساتذة المرموقين في جامعة "تشينغوا" رفيعة المستوى "فالتحدي الأكبر أمامنا هو الأوضاع المحلية".&

انما على صعيد العلاقات مع بقية الدول، تمضي الصين في مسيرة إنماء العلاقات الاستراتيجية والتجارية وهي ناشطة جداً في منطقة الشرق الأوسط توطّد علاقات تجارية وثقافية مع السعودية والإمارات، وتراعي علاقات استراتيجية مع ايران، وتهذّب علاقات متطوّرة مع اسرائيل، وتولي مفاتيح القيادة لروسيا في ملف سوريا، وتطلق المشاريع في الأردن ولبنان، وتراقب مضيق هرمز وباب المندب لأن استيراد النفط أولويتها، وتعزز وجودها في القارة الأفريقية الفائقة الأهمية لها منذ زمن. العلاقة الأخرى التي تستحق المراقبة والقراءة الدقيقة هي العلاقة الصينية - الروسية.

روسيا تصدّر الأسلحة المتفوّقة الى الصين التي تضع تنمية ترسانتها العسكرية في مطلع أولوياتها كدولة تصبو لأن تصبح القوة العظمى الوحيدة في العالم. روسيا مفيدة أيضاً للصين في اطار "العداء" المشترك لإيديولوجية الغرب وبالذات الولايات المتحدة، الى جانب خلفية الشيوعيّة المشتركة بينهما - مع اختلاف تطوّر التجربتين. الفارق المهم هو ان الاتحاد السوفياتي نافس بالأمس الولايات المتحدة في زمن القطبين عندما اعتبرت الصين نفسها جزءاً من الدول النامية وأصرّت على الانتماء الى مجموعة الـ77 بالرغم من مرتبتها المتطوّرة بأضعاف عن دول هذه المجموعة. واليوم تتعمّد الصين تصوير نفسها على أنها ليست بمثابة الاتحاد السوفياتي بالرغم من استعداداتها الجارية لتحدّي الولايات المتحدة ومنافستها على مرتبة العظمة.

خلاصة الأحاديث أثناء المؤتمر الذي نظمته "الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية" CASS والتي تعتبر بين أكبر، ان لم يكن أكبر، مؤسسة فكرية في العالم، هي ان الصين تجد في القارة الآسيوية ثروة بشرية وحضارية واقتصادية وتاريخية ولغوية وسياسية وبموارد طبيعية ضخمة - واحتضان الصين للقارة قرار استراتيجي. قيادة الصين لآسيا تأخذ بها الى المفاوضات مع الولايات المتحدة محصّنة بثلث مساحة العالم و4,5 مليار من سكان العالم وبصداقات استراتيجية مع أهم الدول في العالم. مبادرة الرئيس شي مدروسة بدقّة وهدفها ليس مجرد الحوار بين الآسيويين وإنما مخاطبة أميركا بلغة العملاق الآسيوي. الرسالة التي شدّد عليها رئيس الأكاديمية، Xie Fuzhan، هي ان آسيا ذات الاقتصاد الديناميكي دخلت "عصراً جديداً" وان على الجميع "احترام الآخر"، وان "الغطرسة تشكّل عائقاً كبيراً" أمام التفاهم. أوضح ان الصين جاهزة للشراكات مع الدول وان أكاديمية CASS ستنولى الاندفاع نحو الشراكة مع المؤسسات الفكرية في آسيا.

الأحاديث على هامش المؤتمر الذي شاركت فيه مؤسسة "بيروت انستيتيوت" ركّزت على العلاقات الأميركية - الصينية ومصير المفاوضات بين الرئيسين. خلاصتها أولاً، ان الصين لا تريد المنافسة أن تتطوّر الى مواجهة مع الولايات المتحدة، وان معظم الصينيين يريدون ان يقترن التنافس مع التعاون، بعيداً عن التصادم. ثانياً، ان العقوبات الأميركية أخذت العلاقة مع الصين الى مرتبة جديدة مليئة بالغموض حول مستقبل العلاقة. ثالثاً، ان عقيدة ادارة ترامب كما فصّلتها "الاستراتيجية الأمنية القومية" تثير غضب وقلق الصين، إنما ليس لدى الصين "حالياً" استراتيجية مواجهة مع الاستراتيجية الأميركية التي تمثّلها عقيدة ترامب. "نحن لا نرى ان من مصلحتنا ان تتحوّل فكرة المواجهة الأميركية - الصينية الى واقع"، قال أحد الخبراء الصينيين في العلاقات مع الولايات المتحدة، "والصين تبذل قصارى جهدها لتجنّب المواجهة من خلال استمرارية التعاون"، ولكن. لكن، عند التوقف أمام "استراتيجية الأمن القومي NSS، تجد الصين نفسها مضطرة، لربما، الى التأقلم مع الواقع". إنما اليوم فإن "التنافس الاستراتيجي" يعلو على "المواجهة".

الصين ترى ان الولايات المتحدة تتمتع بالنفوذ العالمي لأنها بنت شبكة أمنية عالمية، والصين تقول للدول التي تخطب ودّها في العالم ان "من الأفضل العمل معاً، لتجنّب أسوأ السيناريوهات وللتأثير معاً على العلاقات الصينية - الأميركية". تقول لأوروبا ان في حال تطوّر العلاقة الصينية - الأميركية من "المنافسة الى العداء rivalry"، كيف ستتمكن أوروبا من ادارة ذلك التحدي، وإدارة علاقات مستقرّة، وتجنّب أسوأ السيناريوهات، حسب تعبير أحد الخبراء.

القيادة الصينية تزداد تقارباً مع الدول الأوروبية لتستفيد، أيضاً، من التباعد بين الرئيس دونالد ترامب والقيادات الأوروبية - والمانيا في المقدّمة. تزعم القيادة أن لا مشاريع توسّعية لديها في جيرتها بالرغم من خلافاتها الحدودية مع عدد من جيرانها الخمس، بالذات الهند واليابان، وان لا داعي لافتقاد الثقة بإجراءاتها في بحر جنوب الصين ومنطقة الباسيفيك الجنوبية. تقول ان المصلحة الصينية - الهندية المشتركة تقتضي التعاون لأن على كل من الصين والهند تأمين مليون وظيفة شهرياً، ولأن آفاق مشاريع الاستثمار في التكنولوجيا - بالذات الهاتف الذكي - مفتوحة. أما الخلافات الحدودية، يقرّ الخبراء في الصين، فإنها "لربما، مصدر انعدام ثقة صغير" في العلاقات بين العملاقين الآسيويين، بالذات في التكنولوجيا، الصين والهند. رأي هؤلاء الخبراء والمسؤولين ان بالموازاة مع تحسّن العلاقات في السنوات الأخيرة ثنائياً مع الهند واليابان، أثّرت العلاقات الصينية - الأميركية في البيئة الأمنية للصين. فالقيادة الصينية تعي تماماً إفرازات العلاقات الثنائية للولايات المتحدة على الدول التي اما تبتعد أو تقترب من الصين، وهي تحيك علاقات خارجية ثنائية مع كل من الدول المهمة لها بتلك العقلية.

فالصين تستورد النفط من كل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية مثلاً، وهي منذ أوائل التسعينات تبني علاقات "متوازنة" حسب تعبير خبير صيني في اطار العلاقات العربية - الإسرائيلية، حيث ان موازين التجارة الصينية - الإسرائيلية تضاعفت بأضعاف في السنوات الأخيرة. الصين هي أكبر شريك تجاري للسعودية في العالم ضمن سياسة مدروسة للطرفين تأخذ في الحساب علاقات كل منهما مع الولايات المتحدة. الرياض تعي موازين علاقاتها التي تبقى ذات أولوية مع الولايات المتحدة، ولذلك توطّد علاقات مع الصين في حال بروز المفاجآت الأميركية.

الصين هي كذلك أكبر شريك تجاري لدولة الإمارات التي تولّي بالغ الأهمية لدور محوري لها في مبادرة "الحزام والطريق" وعيّنت أحد أبرز رجالها، خلدون المبارك، مبعوثاً خاصاً للصين مما يؤكد على أهمية تلك العلاقة. والصين، عملياً، باتت شريكاً تنفيذياً لشراكة ثلاثية استراتيجية تضم السعودية والإمارات ومصر، وهي تنفّذ مشاريع مهمة في مصر ولها علاقات مميزة مع الرئيس المصري.

إنما إيران تبقى حيوية للصين كمصدر لنفطها، وكشريك في "العداء" للولايات المتحدة، وهي ذات قيمة استراتيجية في التموضع الحالي في اطار "الحزام والطريق" والتموضع المستقبلي إذا برزت الحاجة الى المواجهة.

الصين ستحتفل في تشرين الأول (أوكتوبر) بذكرى الـ70 وهي تفضّل ان تقدم نفسها حينذاك قصة نجاح كدولة عصرية لديها رؤية واستراتيجية حتى العام 2050. إذا فشلت القيادة الصينية والأميركية في التوصّل الى صفقة، ستتفاقم المشاكل الصينية، وستتدمّر سياسة التصدير، وستفقد سوقاً ضخماً في الولايات المتحدة. في وسع الصين إلحاق الأذى انتقاماً إذا لجأت الى بيع ضخم لسندات الخزانة الأميركية الموجودة في احتياطي النقد الصيني، لكن الخبراء يؤكدون ان "تلك ستكون خطوة خطيرة جداً للصين وللاقتصاد العالمي لأنها قد تولّد أزمة اقتصادية عالمية وتهدد مشروع الصين الطموح - الحزام والطريق".

الصين تحاول ان تتصدّى للإجراءات الأميركية والعقوبات ضد شركاتها العملاقة لكنها تصطدم بعراقيل وحدود واقعية. والسؤال الأكبر أمام القيادة الصينية، حسب قول مخضرم في شؤون الصين، هو "أين هو الخط الأحمر بالنسبة لها؟" انها غير قادرة على قراءة سياسات دونالد ترامب بِدقة سيما وأنه يلعب بفعالية معادلة "العصا والجزرة" وان الوقت ليس في صالح الصين. ولذلك ان اللقاء المُرتقب بين الرئيسين ترامب وشي أثناء قمة العشرين الشهر المقبل قد يكون بمثابة "المعركة الأخيرة". والقيادة الصينية تدرك ان عدم الاتفاق ليس في مصلحتها لكن في صفوفها مَن يؤمن ان اثارة "القومية" يوفّر لها غطاء ضرورياً في حال انهيار الصفقة. الخطير هو ان احتمالات المواجهة العسكرية ليست مستبعدّة تماماً. عندئذٍ، ستدّمر مثل تلك المواجهة كثيراً من الأولويات الصينية، وستصعق العلاقات الأميركية - الصينية، وستلوم الصين الولايات المتحدة وقد تسعى للإطاحة بدونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة.