الحدث&الأهم هذا الأسبوع هو انعقاد قمة مجموعة العشرين في أوساكا التي توجَّه اليها دونالد ترامب بثقة قائد أهم اقتصاد عالمي ورئيس الدولة العظمى الوحيدة ليطالب القادة الآخرين أن يسدّدوا كلفة حصصهم في الترتيبات الأمنية الضرورية لمصالحهم، وأن يأخذوا علماً أنه جدّي في اعادة ترتيب العلاقات التجارية لصيانة المصالح الأميركية. لم تهيمن مسألة إيران على برنامج أعمال القمة، ولم يقتحمها النزاع الفلسطيني&–&الإسرائيلي، ولم تنصب على النزاعات الإقليمية أو الداخلية الأخرى، ولم تتقوقع في عنوان محاربة الإرهاب. انها قمّة الاقتصاديات الكبرى في العالم، لكنها أيضاً محطّة المحادثات الثنائية الفائقة الأهمية كتلك بين الرئيسين الأميركي والصيني، وبين الأميركي والروسي، وكذلك ما بين دونالد ترامب وقادة أوروبا الذي يريد منهم الرئيس الأميركي اصلاح سياساتهم الاقتصادية والسياسية، تلك في اطار حلف شمال الأطلسي (ناتو) وتلك نحو إيران ومشاريعها النووية والصاروخية والإقليمية. أوروبا وروسيا واليابان سعوا وراء تنفيس الاحتقان بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية وسط حديث&عن صفقة تهدئة تمهيدية للصفقة الأكبر المتكاملة التي ما زالت بعيدة. التركيز على ناحية الأسلحة النووية منها والصواريخ، أثار القلق في منطقة الخليج التي تخشى أن تكون هي ساحة الحروب مع استبعادها عن طاولة المفاوضات. فانحسار الكلام الأميركي عن أدوار إيران الإقليمية ليس مريحاً سيما مع تركيز محادثات الرئيس الأميركي مع نظرائه&في أوساكا على ما يسمى مسائل "نزع&السلاح". وعلى سبيل المثال، نقلت المصادر عن أجواء الاجتماع بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين أنهما لم يتوصلا الى اتفاق معيّن ولم يبحثا في العمق في دور إيران في سوريا، كما كان تمنّى مستشاروا الأمن القومي الأميركي والروسي والإسرائيلي الذين عقدوا أول اجتماع أمني من نوعه في القدس هذا الأسبوع لمناقشة آفاق الدور الإيراني في سوريا. ما ركّز عليه الاجتماع هو طلب&ترامب من بوتين أن يأتي بالصين الى محادثات تخفيض الأسلحة&الأمر الذي لا تريده الصين. إنما ما أبلغته الديبلوماسية الأمنية الروسية &الى نظيرتها الأميركية أنها حالياً ليست في وارد المقايضة ما بين تحجيم الدور الإيراني في سوريا وبين غض الأنظار عما تحتاجه موسكو لإتمام مهامها في سوريا. "ليس&من&مصلحتنا أن ندخل في نزاع مع إيران لا نعرف عواقبه. فنحن نركّز الآن على تركيا ولا نريد خسارة الاثنين معاً"، قال أحد المخضرمين الروس الذي أضاف أن بوتين راغب&في ترتيب "اجتماع خاص" حول إيران لاحقاً وان الصين والهند توافقان روسيا الموقف المتمسك بعدم إلقاء اللوم على إيران حِرَصاً على عدم&تدهور الأوضاع الأمنية. ولفت المصدر الى ان لدى الصين اداة نفطية هي شراء النفط الإيراني، في حال فشلت المفاوضات الأميركية&–&الصينية.

قمة مجموعة العشرين لا تزال منعقدة عند كتابة هذه السطور، ولذلك سيركز هذا المقال على الحدث الآخر الذي كان يُفتَرض أن يكون تاريخياً والذي وقعَ بلا وقعٍ يُذكر. انه اطلاق الشق الاقتصادي من&المبادرة التي أوكلها دونالد ترامب الى صهره ومستشاره جاريد كوشنر في شأن احلال السلام الفلسطيني&–الإسرائيلي وباتت تُسمّى "صفقة القرن" الى حين وضع كوشنر حداً للتهكّم على التسّمية في ورشة المنامة هذا الأسبوع وأسماها "فرصة القرن".

جاريد كوشنر أخطأ مرّتين: أولاً في تمييع العلاقة بين الخطّة الاقتصادية والخطّة السياسية من مبادرته التي أعلن تسميتها "فرصة القرن" بعدما رافق تعبير "صفقة القرن" تهكّماً على مستوى عالمي. وثانياً، في إخراج المبادرة على مراحل غير مترابطة بين الشّقين السياسي والاقتصادي وإحاطتها بسرّية أثارت حفيظة وغضب&شركاء أساسيين وضروريين في أيةٍ من المراحل.

أخطأ ثالثاً بسبب شخصيته التي اتّسمت في "ورشة المنامة" بالغطرسة والغرور والتعالي، فحصدت له الاستياء والجفاوة في الوقت الذي يحتاج فيه جداً الى عنصر الثقة به والارتياح اليه.

وأخطأ رابعاً عندما اخذ الى تصريحات صحافية أبرزت ما في ذهنه لجهة الشق السياسي من مبادرته، فعرّى ما زعم&أنه يحفظهبالسّرّية الضرورية لإنجاح المبادرة، وكشف تحامله على التاريخ وليس فقط على الفلسطينيين وتعاطفه العضوي مع إسرائيل.

افتتح جاريد كوشنر عرضه لخطة "فرصة القرن" بضربه عرض الحائط كل ما سبقها من مبادرات وخطط سياسية واقتصادية وكأن أحداً لم يسبقه الى التفكير بالشق الاقتصادي وبدور القطاع الخاص في بناء السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. معادلة الأمن لدولة إسرائيل وتحسين الأحوال المعيشية للفلسطينيين طُرِحت مِراراً عبر إدارات أميركية متتالية وكانت الأبرز في طرح وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز أوائل الثمانينات. تلك المعادلة لاقت الفشل دوماً لأنها تقفز على الحقوق الوطنية للفلسطينيين وتقلّصهم الى شعب بلا دولة.

ما زاد من سوء تقديم "الخطة الاقتصادية" لمبادرة كوشنر هو أنه بدا حقّاً عازماً على الغاء كلمة "الاحتلال" من قاموس صنع السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فلم تُذكر مرّة في كل المداخلات الأميركية الرسمية. والأسوأ أنه بدا فعلاً منزعجاً عندما نظر في عينيه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق طوني بلير وقال له انه "مِنَ الحماقة أن نسعى نحو حلّ اقتصادي بدون بناء استقرار سياسي"، وان تحقيق السلام الجدّي يقوم على&"حل الدولتين" وعلى احترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. فتعابير "الدولة" الفلسطينية و"الحقوق المشروعة" للفلسطينيين و"انهاء&الاحتلال" أراد جاريد كوشنر استبعادها عن ورشة "السلام من أجل الازدهار" بحجة أن هذه ورشة اقتصادية واستثمارية تساعد الفلسطينيين وفي عمقه العزم على اختلاق معايير جديدة والغاء مراجع شرعية لصنع السلام الإسرائيلي&–&الفلسطيني. وهنا الخطورة.

لقد سبق خطة كوشنر الاقتصادية محاولات أخرى في هذا الاتجاه منها، على سبيل المثال، مقاربة مماثلة من قِبَل البنك الدولي في التسعينات. ثم ما سعى للقيام به رئيس وزراء فلسطين الأسبق سلام فيّاض قام على بناء البنية التحتية الفلسطينية وكان رائداً فيتفكيره بأن ذلك سيؤدي كأمر واقع الى تحدّي وانهاء الاحتلال. رجال أعمال فلسطينيون بادروا في اجتماعات جانبية عديدة في "المنتدىالاقتصادي العالمي" الى صياغة آلية&عمل وتعاون مع رجال أعمال إسرائيليين كوسيلة من وسائل الوصول الى سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين قائم على حل الدولتين. فجاريد كوشنر لم يخترع البارود في تفكيره بأهمية مساهمة القطاع الخاص في مشاريع بنيوية من أجل السلام. الجديد انه وسّع بيكار استقطاب القطاع الخاص ليشمل كبار&الشركات الأميركية والدولية الذين ذهبوا الى ورشة المنامة.

قادة كبار الشركات الأميركية والأوروبية والعربية لخّصوا موقفهم بالتالي: الاستعداد والرغبة في الاستثمار سيما في قطاعات الكهرباء والماء والمواصلات والاتصالات وغيرها شرط توفير البيئة الأمنية وحكم القانون. وهنا المعضلة والغموض. جاريد كوشنر قال ان هذه هي خلاصة رسالة رجال الأعمال في البحرين، لكنه لم يقل كيف ينوي توفير تلك البيئة الأمنية في الخطّة السياسيّة التي سيكشف عنها لاحقاً. الخلل كان واضحاً: من غير المنطقي التحدّث عن الخطة الاقتصادية بمعزل عن الخطة السياسيّة، ومن العنجهية التصوّر إقبال الأطراف المعنيّة على خطّة اقتصاديّة قبل التعرّف على الخطّة السياسيّة.

عندما&سُئِل كوشنر: أيهما يحظى&بالأولوية، تنفيذ الشق السياسي أم الاقتصادي، أجاب "يجب أن يتم تنفيذهما بالتزامن". قال "الخطة لن تُنفّذ الا بوجود حل سياسي، لكن في الوقت نفسه، لا نستطيع الاكتفاء&بالحل السياسي دون أن تتحسن حياة الناس لأن ذلك سيعرقل الحل السياسي". كلام معقول. الخطة الاقتصادية نفسها المكونة من 140 صفحة&ويحتوي&على 179 مشروعاً مُفصّلاً خطّة تستحق القراءة والتقدير بالذات في شقها المتعلق ببناء البنية التحتية الفلسطينية. إنما لماذا تَبنّى جاريد كوشنير أسلوب التشويق والإخفاء والتمييع في ترابط وتزامن الخطتين الاقتصادية والسياسية، ففتح باب الانتقادات والشكوك. زاد الطين بلّة بكلامه عن مبادرة السلام العربية بازدراء واستبعدها عن الحل السياسي.

كوشنر عاد وعدّل كلامه قليلاً بعد ورشة المنامة إذ قال "بهدف التوصل الى اتفاق، ينبغي تقديم تنازلات من الجانبين، وسيقع الحل السياسي المُحتمل بين مبادرة السلام العربية والموقف الإسرائيلي. وأعتقد ان ذلك منطقي". ليس لدى اسرائيل أيّة خطّة رسميّة ردّاً على الخطّة العربية التي قدّمها العرب قبل 17 عاماً، وهي تتجنّب تقديم الخطط عمداً حفاظاً على هامش المناورة.

لا يكفي أن يذكر كوشنر في خطته الاقتصادية المعابر ليكون ذلك تلميحاً الى عزمه التحدث مع إسرائيل في هذه الناحية. ذلك ان معظم ما جاء في خطته الاقتصادية يتطلب إجراءات من إسرائيل وليس من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أو حماس في غزة. السلطة العليا هي لسلطة الاحتلال. الكلام عن صكوك الملكية باطل في ظل ضم إسرائيل الأراضي الفلسطينية التي تصادرها اليها لبناء المستوطنات وتوسيعَها.

مبلغ الـ50 مليار دولار مبلغ زهيد نسبياً، قال رؤساء كبار الشركات التي اعتادت انفاق مثل هذه المبالغ. فالأموال ليست المشكلة، ولا الترغيب في الاستثمار، وإنما المفتاح ببساطة هو&ضرورة الحل السياسي لتوفير البيئة الأمنية وايضاح صلاحيات القوانين.

امتناع السلطة الفلسطينية عن الانخراط في التعرّف على الشقين الاقتصادي والسياسي من الخطة الأميركية، خطأ. فالامتناع ليس سياسة.&الأجدى لو تتوقف السلطة الفلسطينية عن التقوقع في حردها وان تنخرط بمواقف رافضة أو موافقة على هذا البند أو ذاك كي لا تبقى غائبة. فالحرد ليس سياسة.

&