مبادرة الرئيس مبارك حيال سورية ولبنان
كابوس العراق والعلاج العربي القاصر
بلال خبيز من بيروت: يبدي الرئيس المصري حسني مبارك حرصاً شديداً على استقرار سورية ويبذل جل جهده لمنع زعزعة اركانها، متخوفاً من انتشار الفوضى العراقية في سورية إذا ما خرجت الامور عن السيطرة. ويتفق معه في هذين التخوف والحرص كثير من القادة العرب. هذا الاتفاق على القلق يترافق مع حملة دبوماسية تقودها القاهرة وتساهم فيها الجامعة العربية، بحثاً عن مخرج ما يحفظ ماء وجه النظام السوري بعدما تعرض إلى ما تعرض له في الأشهر الاخيرة. وتحرك العرب في هذا السياق لا يأتي بسبب حرصهم على ثبات النظام السوري ولا تأييداً لبعض سياساته المغامرة. وهو بالتأكيد لا ينجم عن إعجاب بقيادة الرئيس بشار الاسد. إنما فقط، تخوفاً من الأسوأ الماثل في العراق على مرمى سيارة متفجرة واحدة من دمشق والرياض.
اول ما يجب تثبيته في هذا المجال ربما يتعلق بضرورة الإقلاع عن وهم المأزق الاميركي في العراق. فلو كان المأزق حقيقياً كما يفترض بعض الساسة وصناع القرار في العالم العربي، لكان من الواجب بل ومن المحبذ ان يتكرر السيناريو العراقي في سورية. بل ولربما وجب على الحريصين على مقاومة اميركا، من امثال حزب الله اللبناني وسيده الإيراني ان يرحبا بالهجوم الأميركي على سورية. فليس افضل من السيناريو العراقي لتعميق المأزق الأميركي. لكن الأمور ليست على هذا القدر من التبسيط التعبوي الذي تطالعنا به بعض التحليلات. فالخراب العراقي انما هو اولاً واساساً خراب عربي، قد تصيب بعض شظاياه المجتمع الدولي. لكن آثاره المدمرة تطاول العراق اولاً وجيرانه ثانياً. لا مفر من الإقرار بهذه الحقيقة المرة حتى يستقيم النقاش على سمة مفهوم.
لهذا ربما، تضرب الحملة الدبلوماسية صفحاً عما مضى في لبنان من إدارة سورية باليد الثقيلة، والدموية احياناً، تمهيداً لترتيب مستقبل اشد هدوءاً واكثر امناً للمجتمع العربي عموماً.
لكن الرد السوري الرسمي الممعن في التهرب من هذه الاستحقاقات، يستهدف من تعنته غير المفهوم الإصرار على تبرئة النظام وادواته في لبنان من اي جريمة حصلت. او الطلب إلى اللبنانيين على وجه خاص والعالم على وجه عام نسيان القتيل وإعادة تأسيس العلاقة العربية ndash; اللبنانية على جرائم لا يتم كشفها، تطاول اللبنانيين في وطنهم وسيادتهم وحقوقهم البديهية.
بل ويذهب التعنت السوري الرسمي إلى ابعد من ذلك. حيث لا يكف عن التهديد بالتلاعب بأمن البلد في ما لو استمر قادته يطالبون بدم قتيلهم، وبضرورة ان لا ينجو القاتل من عقاب دولي.
في وسع اللبنانيين ان يغفروا للقاتل. إنما ما ليس في وسعهم بالتأكيد ان ينسوا ان الجريمة حصلت، وانهم يريدون ضماناً لعدم تكرارها. هكذا تصطدم المبادرات العربية التي تجول بين العواصم بهدف تحسين العلاقات بين لبنان وسورية وعودتها إلى طبيعتها بمزيد من الدم اللبناني المراق غيلة. وبإصرار لا مثيل له على جعل الجريمة السياسية اداة من ادوات الحوار مع اللبنانيين. وفي هذا ما لا يمكن للبنانيين ان يناموا على ضيمه، لأنه يهددهم في مستقبلهم. حيث انهم يغامرون لو قبلوا بأحكامه في ان يلجأ اي طرف خارجي إلى القتل ما دام يستطيع النجاة من العقاب، بوصف القتل في لبنان الطريقة الانسب للحوار مع أهله.
ربما يجدر بالمبادرات العربية ان تأخذ هذه الواقعة في اعتبارها. ليس من قبيل ان العدالة مصانة في كل مكان من هذا العالم العربي، وان لبنان يطالب بحصته من العدالة، بل كي لا تتحول الجريمة السياسية اداة التحاور الوحيدة بين العرب. في هذا المجال، وإذا ما استشرت هذه الظاهرة المخيفة، كيف يمكن للقادة العرب ان يفرقوا بين الإرهاب الذي يفتك بالعراقيين من دون تمييز وبين الأنظمة التي تتوسل الجريمة السياسية اداة للحوار؟
المعضل والخطر في الوضع الذي تعاني منه سورية اليوم، ان القاضي في الجريمة هو المجتمع الدولي. وان قدرة السياسة على التسامح تصطدم اصطداماً مباشراً بنزاهة القضاء. والحق ان المنطقة تخوض معركة بالغة الخطورة على مستقبلها برمته. فإما ينهزم القضاء امام السياسة، والقضاء هنا تعريفاً هو القضاء الدولي، وليس سعيد ميرزا او عدنان عضوم، وهزيمته يصعب تعويضها في القادم من الايام. واما ينتصر القضاء وتنهزم السياسة، والسياسة هنا تخص العالم العربي عموماً وإذا ما تمت هزيمتها على يد القضاء الدولي فإن تعويض نفوذها الذي تبقى لها لن يكون متاحاً في العقد الحالي على أقل تقدير.
على هذا الأساس يبدو مفهوماً ان يلجأ القادة العرب إلى هذا السلوك الذي يعبر عن ارتباك بالغ وغير مفهوم، (حتى الآن لم يستطع احد ان يفهم ماهية وطبيعة الوساطة التي حاول امين عام الجامعة العربية القيام بها بين لبنان وسورية). فلا يحسنون قيادة هجوم إيجابي وفرض شروطهم على المخاصم في السياسة والمنازع في القضاء. ذلك ان المسألة لا تتعلق بلبنان واللبنانيين فحسب، ولا تتعلق بقدرة اللبنانيين على المغفرة وتناسي الآلام. بل تجاوزهم إلى ما ليس في إمكانهم رده اصلاً لو أرادوا.
الارجح ان المبادرة العربية لن تنجح في امساك العصا من وسطها وإقناع الأطراف كافة ببقائها مخفوضة الجناح. ذلك ان دماء كثيرة سالت تحت جسور النظام السوري في لبنان وسورية منذ ان كان هذا الإمساك ممكناً. وبصرف النظر عن ادعاء الإدارة السورية البراءة من دم القتلى، وبصرف النظر عن المسؤولية الجنائية في هذا المجال فإن تطورات الأسبوع الأخير، خصوصاً بعد حديث نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام إلى العربية، جعلت من الصعوبة بمكان ان يستمر النظام السوري حياً إلا في غرفة العناية الفائقة. وحيث ان النطاسي عربي ولا يملك من الأدوات ما يكفي لمد النظام بالاوكسيجين اللازم لبقائه قيد التنفس، فإن اللامبالاة الغربية حيال مصير النظام السوري التي يعبر عنها وزير الخارجية البريطاني في بيروت، وبيان قصر الأليزيه بعد لقاء شيراك ndash; مبارك، إنما يفصح عن رفض دولي لا مراء فيه لإنعاش النظام السوري.
والحال، فإن بقاء النظام السوري في العناية الفائقة، ولو ادعى مسؤولوه وقياديوه غير ذلك، خصوصاً مجلس شعبه الموقر، يجعل من الدولة المحورية الثالثة في المشرق العربي، بعد مصر والسعودية، قيد الموت السريري. ويترك في العائلة العربية مريضاً قد تنتقل عدوى ضعفه البالغ بسرعة النار في الهشيم إلى شركائه وجيرانه بأسرع مما يتخيل أكثر العقول شطحاً واوسعها خيالاً.
التعليقات