اندريه مهاوج من باريس: اعاد خطاب الرئيس الفرنسي جاك شيراك امام فرق الغواصات النووية في قاعدة ليل لونغ النووية حقائق من الواقع السياسي والامني الدولي كاد البعض من اركان الاسرة الدولية يجاهلها او وضعها عمليا في دائرة التجاهل والنسيان. فما قاله شيراك يؤكد ان سلاح الرد النووي ليس مفهوما من مفاهيم الماضي وانه لا يزال حقيقة بل تهديدا ارهابيا في يد البعض وقوة ردع في يد البعض الاخر . فالاسرة الدولية التي اعتقدت لوهلة ان انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينات القرن الماضي رفع عن عنقها سيف اندلاع نزاع نووي ترى نفسها اليوم امام تهديد مماثل ولكن خارج اطار حرب تقليدية تتواجه فيه دولتان اواكثر . فما عرف ب quot;توازن الرعب النووي quot; اسهم لعقود طويلة في تثبيت نوع من الاستقرار الدولي واكتفت الدول الكبرى بالتواجه امام مباشرة او بالواسطة على اراض الدول الصغيرة وبالسلاح التقليدي فقط .

واذا كانت خلال تلك الفترة المنصرمة تكونت قناعة ما لدى قادة الدول النووية بضآلة احتمالات استخدام هذا السلاح فان كلام الرئيس شيراك اعاد مفهوم الردع النووي الى حجمه لا بل الى دوره الطبيعي وهو امكان اللجوء اليه في عالم تسوده الان الفوضى وتغيب عنه المعايير التقليدية . فانهيار الاتحاد السوفياتي لم يزل التهديد النووي بل على العكس ادى الى ازدياد حجم هذه المخاطر من خلال فوضى انتشار هذا السلاح ووصوله بطرق عدة الى ايد عصابات او دول مارقة او بالاحرى الى quot;قادة دول يلجأون الى وسائل ارهابية quot; كما قال شيراك بنفسه امس . وهي عبارة فسرها البعض على طريقة دول محور الشر التي كان تحدث عنه الرئيس جورج بوش قبل سنوات .

واذا كان البعض يعتقد ان كلام شيراك موجه بشكل اساسي الى ايران وكوريا الشمالية وقد وجه اليهما تحذيرا قبل اسبوعين في كلمته امام اعضاء السلك الدبلوماسي فالحقيقة هي ان خطاب شيراك كتب قبل اسابيع او على الاقل قبل بروز التطورات الاخيرة المتعلقة بالملف الايراني وبالاتجاه التصعيدي الذي ياخذه هذا الملف منذ قيام ايران بنزع الاختام التي وضعتها الامم المتحدة على ثلاثة مواقع نووية .

واذا كان الدستور الفرنسي يحصر برئيس الجمهورية الذي هو في الوقت نفسه القائد العام للقوات المسلحة ، حق استخدام السلاح النووي فان شيراك لم يتردد في التلويح باستخدام هذا الحق ليس فقط للدفاع عن الامة الفرنسية في مواجهة اي خطر ارهابي بل ايضا من اجل الدفاع عن الصمالح الفرنسية . وهذا يعني وفقا لتحاليل بعض الخبراء ان الرئيس شيراك لم يعد يقبل قبل اقل من صنة ونصف من نهاية ولايته بمجرد دور من الصف الثاني وراء الولايات المتحدة الاميركية على الساحة الدولية بل ان خطابه جاء الى حد بعيد شبيه من حيث الاخراج شبيها بالمناسبات بالتي يظهر فيها الرئيس بوش شكلا ومضمونا . شيراك اختار اطلاق تحذيراته الى quot;قادة الدول الذين قد يلجأون الى وسائل ارهابية quot;امام ضباط وعناصر القاعدة البحرية النووية لاظهار مدى القوة العسكرية الفرنسية . واختار كلاماته لتكون موجهة لكل من تسول له نفسه المس quot;بالمصالح الحيوية quot; لفرنسا وهذه العبارات تشير الى ارادة صلبة في اظهار فرنسا كقوة عالمية كبرى ذات نفوذ دولي لها مصالحها وانها مستعدة للدفاع عنها بكل وسائلها.

طبعا ايران مستهدفة بهذا الكلام لان تصرفها بالنسبة الى الملف النووي تصرف يدل الى مخاصمة المجتمع الدولي ككل وهو ما قاله حرفيا وزير الخارجية الفرنسي فيليب ـ دوستي بلازي من موسكو . وعدم تجاوب طهران مع مطالب تقديم ضمانات لعدم استخدام الطاقة النووية لاغراض عسكرية يضعها موضع شك وانهيار الرهان على الاصلاحيين الايرانيين بقيادة الرئيس السابق محمد خاتمي يجعل براي قادة الغرب اي تكنولوجيا نووية من دون مراقبة صارمة سيف داموقليس في يد المتشددين الذي عادوا للسيطرة على شؤون الدولة ومؤسساتها .

ولكن كلام شيراك ببعده السياسي موجه ايضا الى النظام السوري الذي يستضيف حاليا حليفه الايراني من دون ان يخفي الطرفان عزمهما على الاستمرار في تمتين التحالف بينهما ليس بهدف ترتيب شؤونهما الخاصة فقط بل ايضا من اجل تامين حضورهما على الساحة الاقليمية وهذا ما برز واضحا من خلال المؤتمر الصحافي المشترك للرئيسين الايراني والسوري الذين اكدا على دعمهما للمقاومة اللبنانية اي لحزب الله تحديدا وكذلك للفصائل الفلسطينية المعارضة والتي التقى محمود احمدي نجاد قادتها المقيمين في دمشق .

كل هذا قد يهدد مصالح فرنسا الحيوية . وشيراك يعطي الملف اللبناني اولوية مطلقة ويوليه اهتمامه الخاص وقد بات يضيق ذرعا من المماطلة السورية . ومن وراء تمسكه بتنفيذ القرارات الدولية بشان لبنان فان شيراك يريد ان يعيد موطئ قدم فرنسا في هذا البلد ليكون قاعدة له في الشرق الاوسط على غرار ما تفعل واشنطن حاليا في العراق .

من هنا فان خطاب شيراك غير محصور بمفاعيله الانية ولا بمجرد مواجهة تهديد امني طارئ . فالرئيس المشرف على انتهاء ولايته الثانية يريد ان تكون بلاده قوة قائدة وليس تابعة اي انه يريد يعيد لفرنسا ما فقدته من نفوذ دولي خلال ثلاثة عقود ، منذ غياب شارك ديغول.