د. عبدالله المدني: حينما استقلت الهند في عام 1947 ورثت من المستعمر البريطاني بلدا متخلفا يعتمد 85 بالمئة من سكانه في معيشتهم على القطاع الزراعي ، بل أن هذا القطاع كان بدائيا وتسوده أكثر الأنظمة تخلفا في العالم ، الأمر الذي ساهم في ظهور حالات متكررة من المجاعة وتفشي الأوبئة. أما القطاع الصناعي المتواضع فقد كان مجردا من المشاريع الرأسمالية ويعتمد في حركته البطيئة على آليات مستوردة من الغرب ولا ينتج سوى بعض السلع الاستهلاكية ، رغم امتلاك الهند للعديد من المواد الأولية الاستراتيجية مثل النفط والفحم والحديد والمنغنيز.

اليوم ، ومن بعد مرور أكثر من نصف قرن على ذلك المشهد الكئيب ، نرى أمامنا مشهدا مغايرا في كل معالمه وتفاصيله. صحيح انه لا تزال في الهند نسبة عالية من الأميين والفقراء ، ولا يزال نحو نصف سكانها يعيشون بمعدلات دخول يومية لا تزيد عن دولار واحد طبقا لتقديرات صندوق الأمم المتحدة للتنمية. وصحيح أن العادات البالية والخرافات والأساطير لا تزال متفشية في أوساط طبقات اجتماعية غير قليلة ، وان بعض صور الفساد لا تزال مصاحبة لممارسات البلاد الانتخابية و لعمل أجهزتها البيروقراطية.

وصحيح أن الهند لا تزال إلى اليوم دولة المنبوذين ونظام التفاوت الطبقي المقيت والاحتقانات الطائفية الموسمية. إلا انه في مقابل كل هذا ، هناك حقائق مذهلة تقول بأن هذه البلاد تحتضن راهنا ثالث أو رابع اكبر كتلة بشرية مؤهلة تقنيا وفنيا في العالم وبعدد يصل إلى 70 مليون نسمة ، أي ما يعادل إجمالي سكان كبرى الدول العربية وأقدمها في خطط التنمية ، وان الطبقة المتوسطة فيها و التي عادة ما تعول عليها المجتمعات في قيادة عملية التغيير والتطوير ماضية في الاتساع وباتت تضم اليوم 20 بالمئة من عدد السكان أو حوالي 200 مليون نسمة ، وأن الهند صارت اكبر منتج ومصدر في العالم للبرمجيات بحيث بات يمر عبرها أو تتحكم في عمليات كبريات شركات الطيران والاتصالات والمصارف ومؤسسات البطاقات الائتمانية العالمية ، وان مدنا هنديا من تلك التي عرفها أجدادنا في الخليج في حقبة ما قبل اكتشاف النفط كأماكن لتسويق اللؤلؤ واستيراد مستلزمات المعيشة والترويح البريء ( مثل بومباي ومدراس وبنغلور وحيدر آباد) تحولت اليوم إلى قلاع تكنولوجية وعلمية.

وما بين امتلاكها لقدرات نووية وباليستية معترف بها وجيش هو الأضخم عدديا في العالم الثالث بعد الجيش الصيني الأحمر وأسطول بحري هو الأكبر والوحيد الذي يملك حاملات للطائرات آسيويا وعالمثالثيا ، وبين امتلاكها لصناعة سينمائية هي الأضخم في العالم بعد هوليوود الأمريكية ، هناك الاكتفاء الذاتي في الطعام الذي استطاعت الهند تحقيقه ، بل تجاوزته إلى تحقيق فائض من المنتجات الزراعية للتصدير ، بحيث أصبحت تحتل اليوم المركز الأول أو الثاني على مستوى العالم في إنتاج الأرز والألبان والخضروات. إلى ذلك هناك التوسع الهائل والمنظم في قطاع التعليم ومخرجاته ، وبما جعل الهند مع نهاية عام 2000 تحتضن 221 جامعة بها 10555 كلية و 7.8 مليون دارس ودارسة و 330 ألف بروفسور.

وطبقا لدراسة نشرتها مجلة quot;ايشيا ويكquot; الصادرة في هونغ كونغ في عام 1998 عن أفضل الجامعات الآسيوية لجهة الحصول على درجة البكالوريوس ، جاءت جامعتان هنديتان ضمن المراتب العشر الأولى هما جامعة احمد آباد التي احتلت المرتبة الأولى وجامعة بنغلور التي احتلت المرتبة الخامسة. كما حصدت الهند المراكز الخمسة الأولى في قائمة أفضل المعاهد التكنولوجية في عموم آسيا واستراليا.

وفيما يتعلق بشبكة المواصلات ، صارت الهند اليوم في طليعة الدول المالكة لأكبر شبكات السكك الحديدية وبطول إجمالي يزيد عن 70 ألف كيلومتر ، أي أضعاف المسافة الفاصلة ما بين مراكش والبحرين.

وكانت لسياسات تحرير الاقتصاد الهندي من قيود التخطيط المركزي وهيمنة القطاع العام ، التي دشنتها الحكومة الهندية في مطلع التسعينات من القرن المنصرم ، أثرها الايجابي على الحراك الاقتصادي ، وعلى زيادة معدلات النمو السنوية التي صارت تقف اليوم على أعتاب 7 بالمئة وتنافس مثيلها في الصين ، وعلى زيادة معدلات الإنتاج والتصدير إلى الخارج وبما أدرج البلاد ضمن قائمة اكبر ثلاثين دولة مصدرة في العالم وحقق لها مخزونا من احتياطيات العملة الصعبة وصل إلى أكثر من مائة و عشرين بليون دولارات في العام الماضي.

والحال أن الهند مع مطلع القرن الواحد والعشرين تقف شامخة بين القوى العالمية الصاعدة ، وتبدو أكثر جدارة وتأهيلا لجهة احتلال مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي أو الحصول على عضوية مجموعة الدول الصناعية الثمان.

باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي