جنود اميركيون سابقون يتحولون الى quot;قتلة quot; :
أصداء الموت من معارك الخارج تتردّد في أنحاء أميركا

ديبوراه سونتاغ وليزيت ألفاريز: في ليلة من ليالي صيف العام 2005، قصد المحارب الأميركي السابق في العراق والذي يبلغ من العمر 20 سنة، ماثيو سيبي، متجر quot;سيفين إلفنquot; الواقع في ضاحية رديئة من ضواحي لاس فيغاس حيث اختار أن يستقر بعد أن غادر صفوف الجيش.وخلال النهار، تظهر المنطقة، الغارقة في زجاجات البيرة الفارغة والمبعثرة، بوجهٍ كئيب غير خطر. وأما خلال اللّيل، فتمسي بحسب تعبير تحرٍّ جنائي محلي quot;شبيهة بمدينة الفلوجةquot;.

وفي هذه اللّيلة من ليالي صيف العام 2005، لم يرغب سيبي بالتجوّل خارجاً في وقت متأخر. إلا أنه بات مسكونا بكوابيس تتعلّق بمدني قتل على يد وحدته المقاتلة، ولطالما كانت الكحول هي الوسيلةالوحيدة التي تمكنه من النوم. وتلك اللّيلة، أنبأه حدسه بخطر محدق، فما كان منه إلا أن لفّ جسده الهزيل بمعطفٍ ودسّ في داخله بندقية كلاشنيكوف.

واعتبرت التحرية، لورا أندرسون، أن quot;ماثيو كان يدرك أنه لا ينبغي له أخذ بندقية كلاشنيكوف معه إلى متجر سيفين إلفن، إلا أن الخوف تملّكه في ذلك الحيّ، وما أنه تابع تدريبات عسكرية، فقد اعتبر أنه بحاجة لسلاح كي يحمي نفسهquot;.وفي هذه اللّيلة، وفيما كان سيبي عائدا إلى المنزل، ظهر على غفلة ومن الظلمة الحالكة شخصان ضخمان ومسلّحان ينتميان إلى عصابة. وصرّح سيبي خلال مقابلة أنه لمح عقب مسدّس وسمع دوي ثم رأى وميضا، فما كان منه إلا أن quot;فقد السيطرةquot;.

وانتهت هذه اللّيلة بفردٍ من فردي العصابة قتيلا ينزف على الرصيف. وأما الآخر فأصيب بجروح، في حين أن سيبي لاذ بالفرار وquot;قطع كلّ اتصال quot;بالعدو، بحسب وصفه لاحقا.وتمّ اعتقال سيبي، وعنونت صحيفة محلّية في صفحتها الأولى: quot;اعتقال محارب سابق في العراق في جريمة قتلquot;.وتناقلت عناوين الصحف فب مدن الولايات المتحدة الأميركية على اختلافها أخبار حوادث مماثلة: quot;عائلة تلقي اللّوم على العراق بعد قتل الإبن الزوجةquot;، quot;حندي متهم بجريمة قتل يدلي بشهادات حول الضغط النفسي ما بعد الحربquot;، quot;الاشتباه بمحاربين قدامى في العراق في عمليتي قتلquot;.
وإذا ما أُخِذت كلّ من هذه القصص على نحوٍ منفرد، لكانت طبيعتها تقتصر على قصص جرائم محلية، وتبعات الحرب الموجعة على حياة العسكريين وضحاياهم ومجتمعاتهم. وإنما إذا جمعت هذه القصص، لشكّلت ملامح متناثرة لصورة ظاهرة صامتة يمكن تقفي أثر الموت والأسى الذي تتركه في أنحاء البلاد.

وكشفت صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; عن 121 حالة قام فيها محاربون قدامى في العراق وأفغانستان باقتراف جرائم قتل في الولايات المتحدة الأميركية أو اتهموا بارتكاب جريمة قتل بعد عودتهم من الحرب. وفي العديد من هذه الحالات، يبدو أن الصدمة الناتجة عن القتال والضغط النفسي من جراء الخدمة العسكرية إلى جانب الإفراط في تناول الكحول والنزاعات العائلية والمشاكل الأخرى، جميعها عوامل مهّدت لوقوع المآسي التي بطبيعتها هي عبارة عن دمار نتجية عوامل خارجية من جهة، وتدمير ذاتي من جهة أخرى.

وكان ثلاثة أرباع هؤلاء الجنود لا يزال يعملون ضمن الجيش لحظة اقتراف الجريمة. وتم استخدام المسدسات في نصف الجرائم، فيما تم استخدام وسائل الطعن والضرب والخنق والإغراق في حوض الاستحمام في جرائم القتل الأخرى. وواجه خمس وعشرون مجرما اتهامات بالقتل المتعمد والقتل غير المتعمد أو القتل بحادث سيارة بسبب القيادة تحت تأثير الكحول وبفعل الاستهتار وحالة الانتحار.وحوالى ثلث الضحايا هم من الأزواج والصديقات والأولاد أو الأقارب، ومن بينهم ابنة العامين، كرسيوانا كاليرا لويس، التي دفعها والدها، وهو في العشرين من العمر، بعنف غلى الحائط عندما كان يتعافى في مدينة تكساس من جراء انفجار أصابه في مدينة الفلوجة وأدى إلى بتر ساقه وإلى اضطرابه.

وربع هؤلاء الضحايا زملاء في الخدمة العسكرية بما فيهم ريتشارد دايفيس، الاختصاصي الذي يعمل في الجيش، والذي طعن عدة مرات ومن ثم تم إحراقه وإخفاء جثته في الغابة، وذلك على يد جنود زملاء له بعد يومٍ واحدٍ من عودتهم جميعاً من العراق.

أما من تبقى من الضحايا فهم أشخاص يعرفهم الجاني أو غرباء ومن بينهم نوا غاميز، في الحادية والعشرين من العمر، الذي قبض عليه جندي مقاتل في العراق أيضا عندما كان يصعد عنوة إلى سيارة بالقرب من موتيل في مدينة quot;توكسونquot;، فأطلق عليه النار وأرداه قتيلا ومن ثم انتحر خارج مدينة سان دييغو بإستخدام أحد المسدسات العديدة التي تم العثور عليها في سيارته.

وفي ظل تمكن العديد من الجنود استعادة مسار حياتهم الطبيعية بعد الحرب، وفيما البعض الآخر قد شهد ازدهار حياته، إلا أن مجموعات الجنود لطالما أسفت لطريقة الاهتمام بالأقلية من الجنوزد الذين لم ينجحوا في إعادة التأقلم مع الحياة المدنية.ولا شك في أن إقتراف جرائم القتل هو دليل على خلل يشوب حياة الجنود العائدين، ويعاني عدد منهم بطريقة أكثر تحفظا، وتتجلى هذه المعاناة بانهيار الزواج وارتفاع الديون والإدمان على الكحول أو بإشكالات خفيفة مع القانون.

إلا أن جرائم القتل هذه تشكّل صدى لعمق الدوامة التي غرق فيها بعض الجنود، سواء غرقوا في دوامة أو في إنفجار فجائي للعنف.
وانتحر 13 من هؤلاء الجنود بعد القيام بعمليات القتل فيما قتلت الشرطة إثنين منهم. وحاول العديد منهم الإنتحار أو عبّر عن رغبة في الموت على غرار جوشوا بول، وهو جندي سابق، متهم بقتل شخص دهسا وقال للقاضي في مدينة مونتانا في خلال العام الماضي:quot;بكلّ صراحة، أتمنى فعلا لو أنني مُتّ في العراقquot;.

وفي ما يتعلق بجنود من العراق أو أفغانستان، ما من علاقة بين ذهاب المتهم إلى الحرب وبين إرتكاب الجريمة أو المحاكمة أو العقاب. لكن في عدد من الحالات، تمسي الخدمة العسكرية على نحو ثابت بحدّ ذاتها عاملا سلبيا، فيما يحاول النظام القانوني والعائلات والمجتمعات أن يفهم سبب إرتكاب الجرائم.
ووقع ذلك شديد عندما يتضح أن الرجل الذي كان فيما مضى ملتزما بالقانون قد ارتكب عملا عنف عشوائي، علما بأنه يوجد إمرأة من بين ال121 حالة. وأظهرت تحليلات مجلة quot;تايمزquot; أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء الشبان على خلاف معظم المجرمين المدنيين، لا يملكون سوابق جرمية.

quot;لا بدّ من توقع آثار جانبية للمعارك، لا سيما إذا تعلّق الأمر بأشخاص لم يسبق لهم أن أظهروا ميلا إلى العنفquot;، بحسب روبرت جاي ليفتون، أستاذ محاضر في علم النفس السريري في كلية الطب في جامعة هارفارد/quot;Cambridge Health Alliancequot; والذي كان فيما مضلا يدير quot;مجموعات نقاشquot; للجنود الذين شاركوا في حرب فييتنام وقد سعى جاهدا للحصول على اعتراف بما بات يعرف حاليا باسم quot;اضطرابات إجهاد ما بعد الصدمةquot; أو quot;PTSDquot;.

الجنديان المدانان ماثيو سيبي(يسار) و سيث ستراسبورغ (يمين)

أفاد ليفتون أنه quot;لا شكّ أن كلّ أمر تتعدّد أسباب وقوعه. لكن القتال وخاصة ذلك الذي يهدف إلى محاربة المتمردين هي تجربة قوية إلى حدّ أن عدم أخذها بعين الاعتبار أمر مبالغ فيهquot;.وحظي عدد من الجنود ال 121 بأكثر من فحص لصحتهم العقلية في نهاية خدمتهم، بحسب المقابلات التي أجريت معهم والمحامين والأقارب ووكلاء النيابة العامة الذين ينظرون في قضيتهم. وعانى العديد منهم من الصدمة الناتجة عن القتال بعد عودتهم بحسب ما أظهرته هذه المقابلات، إلا أنه لم يتم تقييم أو تشخيص إصابتهم باضطراب إجهاد ما بعد الصدمة إلا بعد أن تم القبض عليهم بتهمة القتل.

والواضح هو أن التجارب التي إختبرها الجنود في شوارع بغداد والفلوجة لازمتهم حتى بعد عودتهم إلى وطنهم.

quot;عاد من الحرب شخصا مختلفاًquot;، تلك هي العبارة المشتركة التي يرددها أفراد عائلات المدعى عليهم، الذين لاحظوا حدّة طبع الجنود والعزلة وشدة التأثر وقلّة النوم والإفراط في شرب الكحول والإدمان على المخدرات والاحتفاظ الدائم بمسدّس.وزادت طبيعة محاربة المتمردين في العراق، حيث لا وجود لجبهة قتال، الضغوط النفسية من جراء المعركة والتناوب على العمل. وتم نشر ثلث القوات الموجودة في العراق وأفغانستان أكثر من مرة مما ضاعف هذا الضغط.

وفيما مضى، ارتبطت علامات مختلفة بتبعات الحرب المعنوية والنفسية: quot;صدمة التقوقعquot; والاضطراب الناتج عن حرب فييتنام. ويتم التركيز حاليا على اضطراب إجهاد ما بعد الصدمة، إلا أن المسؤولين عن الإهتمام بصحة الجنود لاحظوا وجود سلسلة من المسائل النفسية، فيعاني نصف أفراد الحرس الوطني العائدين و38 في المئة من الجنود و31 في المئة من قوات البحرية مشاكل صحية بحسب وزارة الدفاع الأميركية.وسمحت عقود من دراسة المشاكل التي يعاني منها جنود فييتنام القدامى بإظهار الروابط بين الصدمات الناتجة عن القتال من جهة، ومعدلات البطالة والتشرد وامتلاك الأسلحة واستغلال الأطفال والعنف المنزلي والإدمان وحالات الإجرام من جهة أخرى. ولطالما كانت هذه الروابط معروفة في إطارات أقلّ علمية بطبيعتها.
وبحسب الدكتور جوناثان شاي، وهو متخصص في علم النفس السريري في وزارة شؤون المحاربين القدامى في بوسطن ومؤلف كتابين عرض فيهما مشكلة الصدمة الناتجة عن القتال من منظار النصوص المعروفة، quot;فإن الارتباط بين الحرب والإجرام يعود للأسف إلى زمن قديمquot;.

وبخلاف ما قام به الجيش خلال حرب فييتنام، فقد بذل حاليا جهدا كبيرا من خلال الفحوصات والأبحاث بهدف الإحاطة بحاجات الصحة العقلية للجنود العائدين من القتال. إلا أن تلبية هذه الحاجات ومعالجتها أمر مختلف. وقامت وزارة الدفاع الأميركية العام الماضي بوصف نظام صحة الجنود العقلية بالمثقل والمفتقر إلى الاختصاصيين والتمويل الكافي إلى جانب تأثره السلبي بالوصمة المتعلّقة بمسألة اضطرات إجهاد ما بعد الصدمة.ورغم أن العلاج المبكر يمكن أن يساعد الجنود القدامى على الاحتفاظ بعلاقاتهم الاجتماعية وتفادي الوقوع في مشاكل مماثلة، على غرار الانهيار العصبي والإدمان على الكحول والتصرف الإجرامي، إلا أن العديد منهم لا يسعون للحصول على مثل هذه المساعدة أو لا يحظون بها بكلّ بساطة. وتبدو هذه المجموعة من المتهمين بالقتل المثال على ذلك.

قد علم عدد من هؤلاء الجنود أنهم يعانون من اضطراب إجهاد ما بعد الصدمة بعد أن تم توقيفهم. وفي حال ادعوا البراءة، ولم يحظوا بمحامين وأقارب ملتزمين بقضيتهم إلى أقصى الحدود، أو في حال انتحروا ، نادرا، آنذاك، ما كانت المسائل المرتبطة بصحتهم العقلية تخضع للتقييم حتى بعد وقوع جرائم القتل.

وفي أوقات عديدة يطرح التساؤل التالي: هل يقع اللّوم على الجيش أيضا في هذه الجرائم؟ ففي بعض الحالات يرسل الجيش جنودا يعانون أصلا من مشاكل، على غرار الإدمان على المخدرات والعنف المنزلي، إلى القتال، فتتفاقم نتيجة ذلك هذه المشاكل.وفي حالات أخرى، سرعان ما يقوم الجيش بتسريح الجنود العائدين من القتال الذين يعانون من مشاكل نفسية أو إدمان ليقترفوا بعد ذلك جرائم قتل.

وطور الجيش مؤخرا، دورة تحت عنوان quot;التدريبBattlemind Trainingquot; لتهيئة الجنود نفسيا وتسهيل اندماجهم في المجتمع المدني. وويشير أحد دروس الدورة إلى أن العدو هو الهدف الوحيد في المعركة لكن لا أعداء على أرض الوطنquot;.

وقد يكون من الصعب تعلّم هذا الدرس. فيجد عدد من الجنود وقوات البحرية نفسهم في حالة حرب مع أزواجهم وأولادهم وزملائهم والعالم بأكمله وحتى مع ذاتهم عندما يعودون إلى المنزل.وبالنسبة إلى سيبي، وهو الجندي الذي قتل فردا من العصابة، فقد دعم تحقيق الشرطة قصة دفاعه عن نفسه.وقد يتم إسقاط التهم بحق سيبي مقابل إتمامه علام من الإدمان واضرابات إجهاد ما بعد الصدمة بنجاح.

وبعد أن استعاد حرّيته لبدء حياة جديدة، بادر سيبي إلى الانخراط بحذر في المجتمع. ويقول سيبي إنه لدى تعرّضه لضجيج يبدأ قلبه بالخفقان ويغرق في حالة من الإرباك ويشعر بحالة عصبيّة من التأهب. لكنه يعرف اليوم كيف يهدىء من روعه وما عاد يحمل مسدس وقد أصبح متزنا نتيجة إنجازه.
وأضاف: quot;تلك الليلة، من الصيف الحار في لاس فيغاس عندما تم إعتقالي بتهمة القتل، لو أمكنني أن أمحيها لكنت فعلت. فالقتل جزء من مشهد الحرب وواقعها، لكن عند العودة إلى أرض الوطن، الأمر يختلف كلّيا وكذلك الواقع...quot;.