انفتاح القذافي على الكتلة الغربية يحيل نظرياته القديمة إلى التقاعد
الكدي لإيلاف: أوباما لن يطالب بالديمقراطية وحقوق الإنسان في ليبيا

إسماعيل دبارةمن إيلاف: quot; لم تعد جماهيريّة القذافي في 2008 كما كانت في السابق quot;، هذا ما يمكن أن يتوافق عليه جلّ المتابعين للشأن الليبي والعالم يستعدّ لتوديع العام 2008 واستقبال سنة جديدة. تطوّرات و أحداث مهمّة منها السياسي والاقتصاديّ والاجتماعيّ شهدتها الجماهيرية الليبية أو بوابة إفريقيا كما يحلو للبعض تسميتها وهي تستعدّ لاستقبال سفير أميركي جديد، تخبّط في البرامج و الخطط ، مراجعات في بعض الأفكار والعقائد، و تململ شعبيّ و سياسيّ بلغ حدّا مكشوفا لم تتمكن حتى وسائل إعلام ليبيا الرسمية من التعتيم عليه. تغيّر جذريّ في العلاقة مع الغرب و قطع نهائيّ مع توجهات القطيعة و الخطب الحماسيّة التحريضيّة الممانعة، مقابل انفتاح أو quot; ارتماء quot; غير حذر في أحضان كبرى القوى العالميّة : الولايات المتحدّة الأميركية زعيمة النظام العالميّ الجديد و الدبّ الروسي متعاظم القوى والقائم لتوّه من سباته العميق.

استنادا إلى وزارة الخارجية الأميركية فإنّ السيّد quot;جين كرتزquot; سيؤدي اليمين كسفير أميركي في طرابلس اليوم الأربعاء 17 ديسمبر ويتقلد منصبه بعد ذلك ببضعة أيام كدليل على تحسن العلاقات بين البلدين وليكون بذلك أول سفير أميركي لدى ليبيا منذ عام 1972اي بعد قطيعة دبلوماسيّة استمرّت لـ 36 عاما. عودة السفارة الأميركية إلى ليبيا حدث مهم للغاية كونه يختزل سلسلة من القرارات الجريئة التي اتخذها الطرفان لكسر الجليد بينهما ففي أواخر عام 2003 بدأت العلاقات الأميركية الليبية تتحسن تدريجيا عندما أعلن القذافي تخلي بلاده عن برامجها للحصول على أسلحة الدمار الشامل، واستعداد ليبيا فتح منشآتها النووية للتفتيش الدوليّ ، ليتمكّن الجانبان بموجب كلّ ذلك من فتح بعثة دبلوماسية في العاصمتين عام 2004، قبل أن يتنامى حجم التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى السفارات الكاملة في العام 2006.

لكنّ المتابعين يرون أنّ المقابل الذي سيدفعه القذافي نتيجة رفرفة العلم الليبي في سماء طرابلس سيكون باهظا للغاية، و أولى زخّات هذا الثمن هي بلا ريب الاعتراف الضمنيّ بإحالة نظرياته و أيديولوجياته العتيقة إلى التقاعد و ترحيل quot;الكتاب الأخضرquot; إلى احد المتاحف. عوّد العقيد معمرّ القذافي شعبه منذ استيلائه على الحكم بعيد انقلاب في العام 1969على الالتفاف على معظم أخطائه التي سبّبتها الهوّة الشاسعة بين بقاء أهل ليبيا سجناء للماضي و حاضر قوامها الدينامكيّة و التغيّر ، لا رحمة فيها على المتخلّف و لا هوادة.

يقول رونالد بروسوساينت جون وهو باحث مستقل في معهد كارنيغي في مقال له نشرته صحيفة القبس الكويتيّة بتاريخ 13 / 12/2008 :quot;جاء اقتراح القذافي الأخير بحل الجزء الأكبر من الحكومة الليبية ليمط أكثر فأكثر الخيط الرفيع بين النظرية والحقيقة إلى درجة الانقطاع التام. وأطلق نقاشا داخل البلاد قد يشير إلى أسلوب جديد في صنع القرار ومنذ أطلق القذافي ثورته عام 1969، استخدم أيديولوجيا ثورية (عبر عنها أولا من خلال laquo;النظرية العالمية الثالثةraquo; ولاحقا في المجلدات الثلاثة من laquo;الكتاب الأخضرraquo;) كانت بمنزلة محفز وأداة في الوقت نفسه. كانت محفزا لأنها سيطرت على تفكير وممارسات الزعيم الليبي وأنصاره الأكثر تفانيا. كانت أداة لأنه استعملها هو وأتباعه للحصول على الطاعة والدعم في صفوف الرأي العام. ...غير أن الرئيس الليبي لا يزال يعبر عن نظريات الكتاب الأخضر التي تنتمي إلى زمن آخر ويدافع عنها. لكنه فقدَ عمليا قدرته على تسخير الأيديولوجي للحصول على الدعم الشعبي للسياسات الثوريةquot;.

ولأنّ احتقان الأهالي في مدينتي quot;الكفرةquot; و quot;بنغازيquot; بعد التظاهرات التي اندلعت في مطلع نوفمبر الماضي ضدّ النظام تضلّ شاهدة على أنّ الأسلوب الهرميّ في اتخاذ القرارات المصيريّة التي تهمّ شعبا لايمكن أن تظلّ طويلا دون رفض شعبيّ ، فإنّ السجال السياسي الذي دار بين القذافي ورموز حكومته بخصوص خطة توزيع أموال النفط على الليبيين مباشرة و ما يمكن أن تحدثه من فوضى هو دليل آخر على أنّ العام 2008 في ليبيا يبدو استثنائيّا و بنكهة أميركية .

بجرأة كبيرة اقتحم العقيد الليبي ساحة العلاقات الدولية طارقا في آن باب كبرى القوى المتحكمة في سير تلك العلاقات.فكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية قامت بزيارة تاريخيّة عقب التوقيع على أتفاق (تسوية المطالب) الشامل في طرابلس بين ليبيا والولايات المتحدة ، و ينصّ الاتفاق على تعويض ضحايا حادثة لوكيربي عام 1988، وملهى (لابيل) في برلين عام 1986، وكذلك أيضا ضحايا الاعتداء الجوي الأميركي الذي أستهدف عام 1986 العاصمة الليبية طرابلس ومدينة بنغازي.

ومع عودة العلاقة بين واشنطن وطرابلس عادت على الفور ndash; وهو أمر متوقّع- الشركات النفطية الأميركية مثل (اوكسيدونتال و شيفرون) للاستكشاف والتنقيب عن النفط الليبي إلى جانب تطوير البنى التحتية لقطاع النفط التي تضررت كثيرا بسبب الحصار والعقوبات الدولية المفروضة على الجماهريّة.
عودة العلاقات بهذا الشكل فسحت المجال واسعا لتطبيع العلاقات الليبية الأوروبية على نحو عكس تحولا جوهريّا في المواقف السياسية والدبلوماسية الغربية المرتبطة عادة بمواقف الولايات المتحدة التي اعتبرت ليبيا داعمة للإرهاب.

وبدأت المحادثات الرسمية بين ليبيا والإتحاد الأوروبي في نوفمبر الماضي لإبرام الاتفاق الإطاري للشراكة الأوروبية الليبية في إطار مذكرة التفاهم الموقعة بين الجانبين في شهر يوليو / جويلية من العام 2007 و الهادفة إلى تعزيز وتطوير العلاقات بينهما بالعمل على إقامة هذه الشراكة في العديد من المجالات. بالتوازي زار القذافي موسكو في خطوة اعتبرها عدد من المتابعين ردا على زيارة الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين لطرابلس في أبريل الماضي، و إن كانت تعكس في مضمونها رغبة من العقيد في تحقيق شيء من التوازن في علاقاته بين كلّ من القطب الشرقيّ و الغربي.

ويقول الإعلامي والكاتب الليبي عمر الكدي في حديث خصّ به quot;إيلافquot; :'لا شك أن ليبيا نجحت في حل مشاكلها العويصة مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة، والفضل في ذلك يعود إلى فشل الأميركيين في العراق، فإذا نجحوا هناك لكانوا تعاملوا بطريقة مختلفة مع القذافي، الذي نجح في إقناعهم أن أسلحة الدمار الشامل التي يبحثون عنها في العراق موجودة في ليبيا. في الحقيقة لم يكن هناك برنامج نووي ليبي، وما وجدوه فيما بعد مجرد أجهزة طرد مركزي تحصلت عليها ليبيا من السوق السوداء، وأهم ما باعه القذافي هو المعلومات حول شبكة العالم الباكستاني عبد القدير خان، وأيضا المعلومات المتعلقة بشبكات الإرهاب، وخاصة تنظيم القاعدةquot;.

لكنّ المشكلة تظلّ قائمة حول خصوصية و نكهة كلّ من التجربة و المنظومة الاقتصادية الليبية ، تلك المنظومة التي يبدو أنها من الصعب مهما راجع القذافي عقائده السابقة أن تنحني بسهولة للرأسمالية الأميركية التي عادة ما تربط بين الإصلاح الاقتصادي و السياسي من جهة و الاستثمار من جهة أخرى.

يقول الكاتب عمر الكدّي: quot;لن يطالب الأميركيون بالديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى عندما يستلم أوباما السلطة، يريدون مصدرا آمنا للنفط خارج الخليج الذي قد تتعرض إمداداته للخطر إذا ضربت إيران، وهو ما يتوفر في ليبيا، كما يريدون وخاصة الأوروبيين وضع حد للهجرة غير الشرعية المنطلقة من السواحل الليبية، وفتح ليبيا على مصراعيها للاستثمارات، ولكن وهنا مربط الفرص، لن يستثمروا في ظل نظام مصرفي متخلف، وفي ظل قوانين لا تزال ظلال الاشتراكية وتطبيقات الكتاب الأخضر واضحة على معالمها، كما أنهم يريدون من هذا الشريك الاقتصادي أن يضع حدا للفساد المتفشي في كل ركن من البلاد، وحتى يضمنوا ذلك يريدون بلدا عاديا، وليس جماهيرية عظمى، ومن علامات تحول ليبيا من بلد يكاد يشبه كوريا الشمالية وألبانيا أنور خوجا، قرب ظهور دستور في البلاد بعد أربعين عاما من اختفائه المريب، ولكن هذا الدستور الذي سيحتل العقيد القذافي بنده الرابع، بعد الله والوطن والعلم، سيكون خليطا من المؤتمرات الشعبية، ومجالس أخرى تحتكر السلطةquot;.

هذا التحليل قد يشير إلى أنّ مساعي أميركا لنشر الديمقراطية و حقوق الإنسان في بعض الدول العربية و الدكتاتوريات الآسيوية ليس قرآنا محفوظا و إنما هو استهلاك مرحليّ قد يُغضّ عنه النظر لو توفرت quot;صفقة quot; ملائمة للتعامي عنه. و الصفقة تبدو للوهلة الأولى حاضرة بين ثنايا العلاقات الليبية الأميركية الجديدة يحاول الكاتب عمر الكدي تفسيرها بالقول:quot;من اللافت للانتباه أن هذه التحولات ستخدم السيناريو الوحيد المرجح في ليبيا، وهو توريث القذافي السلطة لأحد أبنائه.

ويبدو أن سيف الإسلام أو المعتصم هو من سيرث السلطة، ولن يرفض الغرب هذا السيناريو، وخاصة بعد أن قام سيف الإسلام بحملة علاقات عامة في أميركا، حاول خلالها تسويق نفسه في كل المحافل، ولم يمنح سيف الإسلام تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، إلا بعد أن دفعت ليبيا آخر قسط في التعويضات، ويمكن القول إن التأشيرة كلفت مليارا ونصف دولار، وغالبا سيروج الغرب مقولة أن شعوب الشرق الأوسط غير جاهزة للديمقراطية، بسبب قصور في بنيتها الثقافية، وأنه لابد من التدرج للوصول إلى نظام ديمقراطي، وأكثر ما يخشاه الغرب أن تنهار الدولة الليبية على بؤسها، لتتحول ليبيا إلى صومال آخر يطل على ألفي كيلو متر على البحر المتوسط، وإذا كان الصوماليون قد تحول إلى القرصنة من دون خبرة تاريخية، فإن الأميركيين قبل غيرهم يخبرون خطورة القراصنة الليبيين، الذي اضطروهم إلى خوض أول حرب في تاريخ الولايات المتحدة خارج أراضيها، بين عامي 1801 و1805، حتى أن اسم طرابلس لا يزال حتى الآن في نشيد البحرية الأميركية، كما يخشون أن يكون البديل للقذافي هي الأصولية الإسلامية.quot;

و تشير تحليلات البعض إلى أنّ ما يخطط له الرئيس بوش تجاه ليبيا حاليا قد يسقط في الماء لدى توليّ الرئيس اوباما الحكم ، كونه تعهد بالقطع نهائيا مع عدد من سياسيات سلفه، مقولات نفاها محدثنا بالقول :quot;يستبعد أن يغير أوباما الذي يملك فهما أنضج للمنطقة هذه السياسة، وذلك لأنها ليست من أولوياته، بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، كما أنه يضع أمام ناظريه إيران، أفغانستان، العراق، والصراع العربي الإسرائيلي، ولكن إذا نجح في هذه الملفات الصعبة، فعندها سيبلور توجها جديدا للسياسة الخارجية الأميركية، يتمثل في الضغط الشديد من أجل إحداث إصلاحات حقيقية، في مجال حقوق الإنسان، حرية التعبير، وتحقيق مردود اقتصادي يبعد أولئك اليائسين عن شبكات الإرهاب، في هذا تتساوى ليبيا مع غيرهاquot;.

و تبقى الحلقة المفقودة في كلّ ما تقدّم هي المعارضات الليبية الناشطة في الخارج ، قليلة الكلام في الداخل، فهي و إن بدا الضعف واضحا على محيّاها ، فإنّ بعض المتابعين يرونها رقما صعبا في أي تسوية أو معادلة سياسية ndash; اقتصادية تعقد مع القذافي بضغط خارجيّ.

عمر الكدي لا ينفي أهمية دور المعارضة في كلّ تحول مرتقب في ليبيا لكنه يعتبرها ضعيفة جدا إذ إنّ العامل الداخلي غير ناضج بشكل موضوعي، وفي كل تاريخ ليبيا لعب العامل الخارجي أكثر من الداخل، وخاصة أن النظام وجه ضربة استباقية لإمكانية ظهور أي معارضة، وذلك عندما شجع سيف الإسلام الناشطين والمثقفين في الداخل الانضمام إلى مؤسساته، ثم تركهم تحت رحمة اللجان الثورية، كما أنه نجح في جر الإخوان المسلمين إلى فخه، أما في الخارج فقد فشلت المعارضة في بلورة خطاب برغماتي ذكي، يسمح لهم بالعودة إلى الداخل، دون أن يكونوا تحت مظلة سيف الإسلام، وهو ما يشترطه النظام مع كل من يرغب في العودة إلى البلاد.

و يعتقد الكاتب و الإعلامي الليبي المقيم في هولندة أن المعارضة بشكلها القديم قد وصلت إلى طريق مسدود، وعليها أن تتغير، وأن تبحث عن سبل أخرى لتبقى على قيد الحياة، ويبدو أن المعارضة الحقيقية ستتبلور في ليبيا كلما غيّر النظام من شكله القديم، وحتى الآن تعوّد الناس على الخروج إلى الشارع ليطالبوا بالتحقيق في ملفات معقدة، مثل ملف مذبحة سجن 'أبوسليم'، وتعلموا بسرعة كيف يطالبون بحقوقهم دون أن يشتبكوا مع قوات الأمن، وهو ما ينبئ على نضج ساهم في ظهور ظروف الحياة الصعبة والضاغطة، ولكن هذه الحالة قد تتطور لتتحول إلى معارضة جارفة للنظام في أي وقت من الأوقات، فالليبيون في الداخل لم يعودوا ينتظرون أحدا لينقذهم من الخارج، سواء كان معارضة أو غزوا خارجيا، وهو ما يعني أن العامل الداخلي أصبح ينضج شيئا فشيئاquot;.

و لئنّ العقيد القذافي ليس بغافل عن كلّ تلك التحليلات، فإنّ طريقة تعاطيه مع الأميركيين و الغرب عموما و إن بدت للوهلة الأولى غير حذرة ، فإن الثابت أن تلك العلاقات ستشهد انتكاسات عدّة نظرا إلى عدم قدرة العقيد و مستشاريه على تقبل الديمقراطية الأميركية و ضغوطاتها بسلاسة، ومن ذلك تعمّد النظام الليبي حجب موقع السفارة الأميركية انطلاقا من ليبيا لأنها نشرت تقريرا ينتقد أوضاع حقوق الإنسان في الجماهرية منذ أسبوعين فقط، و استنادا إلى موقع quot;ليبيا اليوم quot; الإخباري فقد :quot;انتقد التقرير الوضع السياسي القائم، وسجلّ الحكومة الليبية في حقوق الإنسان والذي وصف بالسيئ، كما انتقد التقرير السياسات الأمنية بالبلادquot;.